رصد المفارقات العجيبة
المجد للعصبية: بين عمار العزكي وملحم زين!
كنتُ استمع للفنان اللبناني ملحم زين، أو "الصهير" وكما يحلو للبعض أن يناديه، وهو يغني أغنية الفنان الكبير محمد سعد عبدالله "يحلها ألف حلال".
ولأنني من الناس الذين يعشقون صوت العبقري محمد سعد، وطريقته السلسة والانسيابية في الغناء، فقد أوقعني مثل هذا التعلق الكبير بمشكلة ما، وهي عدم استساغتي لسماع أغانيه وهي تؤدى بأصوات فنانين آخرين، حتى أولئك الفنانين الكبار أصحاب المواهب المُقدرة الذين حاولوا إعادة غناءها، لكنهم فشلوا في إضافة تلك اللمسات الساحرة التي كان محمد سعد يضفيها عليها ببراعة استثنائية. وربما هذه الحالة تتكرر معي على المستوى العربي مع أغاني الفنانة العظيمة فيروز.
كان ملحم زين ربما هو الاستثناء الوحيد، ومن يستمع إلى أداءه الرائع لأغنية "يحلها ألف حلال"، أو حتى أغنية أبو بكر سالم الخالدة "بشل حبك معي"، يدرك جيداً مقدار الاتقان والتمكن في الأداء، والإحساس العالي الذي افرغه بين جنبات كلمات الأغنية..
تذكرت اليوم ملحم زين في أجواء "الفزعة اليمانية" الكبرى التي انتعشت بشكلٍ لا مثيل له في الفترة الأخير لتآزر المتسابق اليمني في برنامج عرب آيدول عمار العزكي متجاوزة كل أشكال الانقسامات السياسية، وافرازات وأحقاد الحروب، وترسبات الماضي السلبي، وهذا أمر جيد، بدون أدنى ريبٍ، طالما شكل نوع من التعافي الإيجابي على مستوى العلاقات الإنسانية، السلوك الذي نفتقده بشدةٍ.
الأمر غير الجيد في هذه الفزعة أنها تقوم على أساس عصبوي خالص لا علاقة له بالفن والذوق وما يبثه من عناصر جمالية، وبالتالي فحتى لو فاز عمار في المسابقة، وهذا ما نتمناه له، واضعين في اعتبارنا العامل المعنوي العام من وراء هذا الفوز، لكن هذا الأمر، وعلى أهميته، لن يجعلنا نشعر بالاطمئنان، فالانتصار لم يكن هنا للفن بمعناه الواسع، بقدر ما مثل انتصاراً لـ"عمار اليمني".
أقول ذلك وأنا استذكر حالة النقاش الحاد التي رافقت زواج ملحم زين من أبنة الرئيس السابق، والنقد العنيف الذي طاله بسبب هذا الارتباط في مختلف وسائل الاعلام اليمنية ومواقع الانترنت، واستحضار كل مفردات اللغة البذيئة ومخزون الثقافة السلبية المناهضة للفن وللفانين للقدح والتشنيع والتحقير...
ولو استمعنا اليوم للأغاني المحلية التي أداها ملحم زين وقارناها بأداء عمار العزكي لها لوجدنا الفارق كبيراً بين الأثنين، لكن اليمني فضل أن يدعم متسابقاً محليّاً بموهبة أقل مكافأة له على نشر تراثه الفني، وفوق ذلك تبرع بدعمه بملايين ملايين الدولارات رغم الظروف المادية الصعبة، واعتبره بطلاً قومياً، بينما تعامل بسلبية ووقاحة شديدة مع آخر يقوم بنفس المهمة، وبشكلٍ أفضل بكثير، وعلى نطاق أوسع، دون أن يكلفه ذلك ريالاً واحداً.
لهذا أقول إن اكتشاف اليمني اليوم لأهمية الفن ليس كقيمة بحد ذاته، وللأسف الشديد، بقدر ما يطرح نفسه، في معظمه، كواحدة من وسائل التفاخر والتباهي والانتشاء التي تتوافق مع ما تتطلبه إلحاحات الذهنية العصبوية للحضور في سوق العصبويات العربية الرائج.
( سيعتقد البعض أن الحديث عن الفن هنا يأتي في سياق محاولة ملتويّة للدفاع عن اتجاهات سياسيّة. لهذا كان علي التأكيد هنا، بأن النقاش متحررٌ من أي سوء ظن على هذا النحو بقدر ما حاول رصد المفارقات العجيبة التي تزخر بها ثقافتنا المحلية. وعلى كلٍ، لو كان للسياسي دوراً إيجابياّ في مثل هذا الارتباط (المصاهرة)، مع أني شخصياً استبعد ذلك، سيكون ذلك العمل الجيد الوحيد الذي في رصيده. فقد كانت العرب تقيم مثل هذه العلاقات في سبيل تعزيز السلطة والسطوة والنفوذ، ولو أن المصاهرة ستعزز الارتباطات الثقافية، فستكون، من وجهة نظري، أكثر رقياً ونبلاً من الأولى، وبكثير...)