شيماء رحومة تكتب:

خلق نماذج مصغرة

ولدك (ابنك) على ما تربيه وراجلك (زوجك) على ما تسنسو (تعوده)”، لم يخطئ المثل الشعبي للأجداد بما طبعه في الذاكرة الجماعية، فإلى اليوم نقتفي أثار أقوالهم في ما نعيشه من أحداث وما نطالعه من أخبار العالم من حولنا.

ويؤكد مقطع فيديو عثرت عليه خلال تصفحي لبعض المواقع الإخبارية هذا المثل ويسلط الأضواء على حكمة الأوّلين.

ظهر في هذا المقطع الطريف أب سعودي يمازح طفله حول سماحه لزوجته بقيادة السيارة، على هامش تنفيذ القرار الملكي مؤخرا الذي يسمح للمرأة السعودية لأول مرة وبشكل شرعي، بالجلوس خلف مقود السيارة. فكانت ردة فعل الطفل غريبة ومضحكة، مرددا بعصبية “لا لن تفعل.. لن تقود”، وأمام  إصرار الأب على موقفه، أقسم الابن الصغير على أنه لن يتردد في ذبح والدته إن فعلت وغادر مقعده باكيا متوعدا.

لا يمكن استغراب موقف الصغير والحال أن السعوديين عاشوا على مدار سنين على مبدأ رفض قيادة المرأة للسيارة وحظر مشاركتها في العديد من الأنشطة والفعاليات.

تَغْييب المرأة من الصورة المجتمعية تغلغل في ثقافة الناشئة وتشبعوا بأيديولوجيات وخلفيات بلدانهم، لذلك فإن ردود أفعالهم قد تبدو أشد تعصبا للماضي القريب من ذويهم.

ردة فعل هذا الطفل تكشف الكثير عن عالمه الطفولي، إذ تشدّد على الدور الكبير للأسرة في التنشئة الاجتماعية له، فهي أول عالم اجتماعي يواجهه، وتكون ملزمة أكثر بلعب هذا الدور عندما تتدخل أطراف أخرى لمشاركتها تربية وتوجيه طفلها كالمدرسة ووسائل الإعلام والشارع والرفاق واليوم الشبكات الاجتماعية والأصوات المتشددة المنادية باسم الدين عبر العديد من الفتاوى.

ويخلق هذا التداخل في أساليب التربية صعوبة على أولياء الأمور ويجعل مهمتهم أشد خطورة، فكل أسرة تطمح إلى أن تربي أبناءها تربية ممتازة وصالحة، لذلك لا بد لها من اتباع خطة تربوية تلبي هذا الطموح.

ولعل من أهم ما يجب على الوالدين التنبه إليه عند التعامل مع أبنائهما أنهم شديدو التأثر بالوسط العائلي بكل ما يحمله من إيجابيات وسلبيات. وهذا ذكرني بمشهد عائلي عاينته منذ مدة عند زيارتي لمنزل ابنة خالتي وهي سيدة محجّبة وتحب الثرثرة عبر الهاتف وفي نفس الوقت لا تهمل واجباتها تجاه أسرتها لذلك دأبت على تثبيت جهاز الهاتف تحت حجابها فتحكي ما شاء لها دون أن تتوقف عن ترتيب منزلها، فكان لنا مشهد مسرحي يحاكي ما تفعله كامل يومها انبثق فجأة عن صمت فتاتها الصغيرة.

تقليد البنت لوالدتها في حركاتها صاحبه حفظ عن ظهر قلب لكل مفرداتها! وهو ما لا يعدّ سلوكا سليما لأنها دون قصد ربت ابنتها على ترديد أخبار الخلق ونهجت بها نهج الغيبة. هذه البنت ما هي إلا نموذج حي عن هذا التأثر، وكما يقول المثل المصري “اللي خلف مامتش (من أنجب لم يمت)”. ينزع بعض الآباء إلى خلق نماذج مصغرة عنهم، ومن ذلك أن رجلا بخيلا حضره ضيف فنادى ابنه وطلب منه الذهاب إلى السوق وشراء أحسن أنواع اللحم، وسمع الضيف الحوار فمنّى النفس بوجبة لذيذة لا تفوت.

 وعندما عاد الولد سأله والده عن اللحم، فأصرف الابن في الإجابة قائلا “طلبت من الجزار إعطائي أحسن ما عنده من لحمة، فقال أعطيك لحما وكأنه زبدة، قلت لنفسي إذا كان هكذا سأشتري الزبدة بدل اللحم، فذهبت للبقال وطلبت الزبدة، فردد أعطيك زبدة كأنها عسل لشدة حلاوتها، قلت في نفسي: أفضل لي أن أشتري العسل، فقلت له: ناولني إذن أحسن ما عندك من العسل، فقال: أعطيك العسل وكأنه الماء الصافي، فخمنت: إذا كانت الحكاية هكذا فعندنا ماء صاف في البيت وأحلى منه، فشكرت البقال ورجعت”.

قال الأب “ما شاء الله عليك، كريم مثل والدك”، وهمس في أذنه “لكن فاتك شيء استهلكت نعالك وقطعته من كثرة التجوال من دكان إلى دكان”.

رد الابن من فوره “لا تقلق يا أبي كنت لابسا نعال الضيف”.