رشيد الخيُّون يكتب:
الخميني.. مُدلل نظام «البعث» العراقي
ضاق الخميني ذرعاً مِن العيش بتركيا(1963)، لم يُسمح له حتى الخروج بالملابس الدِّينية، فالبلد آنذاك ما زال يعيش ثورة الطَّربوش ضد العمامة، فاستقبله العراق(1965)، وقبل مجيئ «البعثيين» إلى السُّلطة(17/7/1968) لم يكن له نشاط سياسي، لكن بعد سوء العلاقات بين البلدين، بسبب دعم نظام الشَّاه للحركة الكُردية، أخذ العراق يستقطب المعارضين الإيرانيين، ومِن بينهم الخميني ومَن معه.
بطبيعة الحال، أي معارضة، مهما كان عنوانها، عندما تتخذ مِن دولة أخرى ساحةً لمعارضتها، لا بد أن ترتبط بشكل مِن الأشكال بأجهزتها، والخميني لم يكن حالة شاذة، فقد تعاون مع النظام العراقي البعثي بشكل كبير، حتى كان يبغض معارضيه ويود مناصريه، لهذا كان سلبياً جداً مع أي معارضة عراقية إسلامية.
جاءت هذه المعلومات مِن شاهد عيان، وقريب مِن الخميني وخصم لشاه إيران، حفيد المرجع الشيعي الأعلى أبي الحسن الأصفهاني(ت1946)، موسى بن حسن الموسوي. قبل أن نأتي على دلال «البعث» للخميني، لنذكر مَن هو الموسوي صاحب كتاب «الثَّورة البائسة»(صدر 1980/1981). كان أحد رجال الدين، ومِن الدَّارسين للفلسفة والمدرسين لها، حاول السَّافاك اغتياله(1971) بالبصرة، فأصيب بجروح، لكن الرّصاصة القاتلة استقرت في جسد زميله أستاذ الفلسفة عبد الرَّزاق مسلم، مِن الطائفة الصابئية المندائية، وكانا في طريقهما لعيادة زميل لهما في جامعة البصرة. أصدر مؤلفات اعتبر بعضها محاولات إصلاحية، بما يخص فريضة «الخمس» ومبدأ «ولاية الفقيه» وغيرهما. منها «الشِّيعة والتَّصحيح»(1987)، و«المضطهدان»(1995)، و«إيران في ربع قرن»(1972)، «قواعد فلسفية»(1977)، و«من السهروردي إلى صدر الدِّين»(1980). كان يعتبر «الغيبة الكبرى» نكوصاً، فما بعدها انقسم المسلمون عدائياً إلى شيعة وسُّنَّة، حتى جاءت الحاكمية الإسلامية وولاية الفقيه لتغلقا باب الأمل في التّحول نحو عالم متطور. اختلفنا أو اتفقنا معه، له وجهة نظر مدعومة بأدلته.
ظل الموسوي على اتصال بالخميني مِن قمّ إلى النَّجف وحتى فرنسا، وكان صديقاً لنجله مصطفى الخميني(اغتيل1971)، وحضر اللقاء بين الخميني والمرجع محسن الحكيم (ت1970)، عندما أراد الأول للمرجعية النجفية تثوير الأوضاع ضد شاه إيران، واحتج الخميني بالحُسين ونهجه فاحتج الحكيم بأخيه الحسن ونهجه أيضاً.
هنا يذكر الموسوي العلاقة بين الخميني والسلطة في زمن حزب «البعث»، وقد كتب ذلك بعد أن أخذ الخميني يلح لقيام نظام إسلامي ببغداد، مِن دون اعتبار لِما كان بينه وبين الدولة العراقية مِن تعاون، وقد عبرت برقية الرَّئاسة العراقية، آنذاك، إلى الخميني عن الأمل بعلاقات حسن الجوار، لكن الرَّد جاء جافاً، بعبارة «مَن اتبع الهدى»، بعدها اعتبر النظام العراقي «كافراً»! فالخميني صاحب ثأر، لا ينسى تقييد حريته خلال الثَّورة، مع أن خروجه من العراق جاء بإلحاح من الشَّاه وليس مطروداً، فغادر إلى فرنسا محمياً، وإلا كان اغتياله أو حجزه سهلاً.
دعم العراق الخميني، وهو قابع بالنَّجف بالآتي: استقبال أتباعه، وتخصيص إذاعة بالفارسية تبث منها أفكاره، عبر برنامج «النهضة الرُّوحية» يقدمه محمود دعائي. أعفى عن أحد مؤيديه في ولاية الفقيه حسن الشِّيرازي المحكوم بالإعدام، بتوسط منه عند صدام حسين النَّائب آنذاك، وغادر إلى لبنان واستمر بالعمل فاغتيل هناك(1980). تدريب عسكري بإشراف «يزدي زاده». منح جوازات وتسهيلات سفر لخاصته. في هذه النُّقاط وغيرها يمكن اعتبار وضع الخميني داخل العراق شبيهاً بوضع «مجاهدي خلق» فيما عد.
كان يعطي دروسه داخل النَّجف في ولاية الفقيه بلا اعتراض. عندما اغتيل ولده مصطفى طلب السماح بدفنه حيث المرقد العلوي، وكان له ذلك بأمر من الرَّئيس أحمد حسن البكر(ت1982). بعدها قامت السلطة بحمايته، فعلاقته ببقية المراجع كانت سيئة بسبب وضعه، وقربه مِن الحكومة العراقية، بالوقت الذي أعلنت الأخيرة تآمر وجاسوسية نجل المرجع الحكيم محمد مهدي (اغتيل 1988)، ومطاردة الإسلاميين.
على الرَّغم مما تقدم جعلت الثَّورة الإيرانية العراق أول محطة تصدير، بهاجس قيام الدَّولة الإسلامية ببغداد، مما أنسى الخميني التَّفكير في التَّعاون المشترك، الذي أبداه العراق عبر برقية التَّهنئة. هناك ما لم يُقل بعد عن مقدمات انفجار الحرب بين البلدين. أما إصرار الخميني على استمرارها فهذا مشهور. السؤال: كيف لرجل دين بدرجة آية الله يتلاعب بالكفر والإيمان حسب الموقف السياسي؟ كيف كان العراق، «مؤمناً» طالما كان مدللاً لدى نظامه، وكيف أصبح «كافراً» بعد الثَّورة مباشرةً؟! لكن مَن عرض المرجع شريعتمداري(ت1985) يعلن توبته على شاشة التلفزيون لا يستغرب منه القياس السِّياسي في التَّكفير.
أخيراً يُضاف لمنافع الخميني مِن «بعث» العراق؛ إِتقان الدَّرس كيف يكون البطش بالخصوم بعد السُّلطة، ولبصير المعرة: «كحمائم ظَلَمتْ فنادى أجدل(الصَّقر)/إن كنتِ ظالمةً فإني أظلَمُ/يتشبه الطَّاغي بطاغٍ مثله/ِوأخو السَّعادةِ بينهم مَن يَسلمُ»(لزوم ما لا يلزم). أقول: وهل في التَّاريخ ثورة سلمت مِن التَّشبه بالَّذي ثارت عليه؟!
* نقلا عن "الاتحاد"