سمير عطا الله يكتب:

الأرض تتكوَّر

في الماضي - دون تحديد - كنت أسافر من بيروت إلى باريس لتغطية «أي» حدث. لم أخرج من منزلي يوم الأحد الماضي مسافة نصف كيلومتر لأشاهد باريس غارقة في أوقيانوس من البشر، تحتفل بما سمّته فرنسا «يوم المجد». نسَيتْ اليوم الوطني وذكرى الثورة وسقوط سجن الباستيل: المجد اليوم، انتصار على كرواتيا، الدولة الصغيرة المبتدئة في سائر أصول الدول.

كان الصخب خارج نافذتي لا يتسنى أن يرى مثله مراسل صحافي، مهما طال به الزمان في تغطية الأحداث. ولكنني آثرتُ أن أشاهد الصورة من الداخل، وأسمع الهدير المريع من الخارج. ولم تعد المسألة، في أي حال، أن ترى كيف يسجَل هدف هنا أو هناك، بل كيف تفور الشعوب، أمة واحدة، وتتجمع عفوياً بالملايين، لأن لاعباً، أو فريقاً، حقق لها النصر. ليتك شاهدت كيف تجمع الفرنسيون حول «قوس النصر». ليس من أجل نابليون، ولا ديغول، وإنما من أجل هدّاف إسباني وبضعة لاعبين أفارقة ومدرِّب - وهذا الأهم - فرنسي.
كم من الرؤساء تمنّوا لو كانوا مكان إيمانويل ماكرون يوم الأحد. لكن ذوي البطولات المألوفين خسروا وخرجوا الواحد تلو الآخر: البرازيل، وإسبانيا، وألمانيا، وبريطانيا، والأرجنتين، فيما مضى مهر جديد نحو الجولة الأخيرة، فتصدى له الحصان الفرنسي، يقطع عليه الفصل الأخير من أشواط الحظ المذهلة.
يقال إنها لعبة قوة ومهارة وتدرّب، وحظوظ. لكنها قبل أي شيء، مهرجان من الفرح المثير والخيبة الثقيلة. أنصار يفرحون وأنصار يحزنون، ومذيعون يسابقون بتعليقاتهم ذلك السباق التاريخي بين الأقدام، القائم بين أقصى الوعي وأقصى الجنون.
كل مباراة بين رجلين، أو مجموعة رجال، فوز وخسارة. لكن حرب الملاعب، على ما تحركه من مشاعر متضاربة وغرائز حارة، تظل أرقى وأجمل من حروب الموت والدماء والمقعدين والمصابين. ما من شعب - بقدر ما أعرف - يستخدم كلمة «المجد» مقدار الفرنسيين. لكنها في كل الآداب الفرنسية في أناشيد الحروب والحماس. لم يعد «المجد» يعني شيئاً عسكرياً. ها هي فرنسا تنتصر على العالم أجمع في حلبته المفضلة، يحقق أهدافها أبناء المستعمرات السابقة والبشرة السمراء.
ومن أجل أن يليق بها الفوز أكثر، يفتح باب الإليزيه للفائزين رئيس شاب، يعانق أعضاء الفريق، ويربّت على أكتافهم. المحظوظ أولاً محظوظ دائماً، يقول المثل الفرنسي. والمسيو ماكرون خرج من المجهول، يخطف الرئاسة من جميع السياسيين التقليديين. وهو ماضٍ في القيام بدور رجل الدولة، إلى جانب زعماء في مثل سن أمه وأبيه.
ثمة جزء من الناس لم يشارك مسحوري الكرة حماسهم. ولكن في كل حال، شكراً للعروض الأخّاذة. وشكراً للإثارة التي حولتنا إلى أطفال. وشكراً للذين خسروا، فهم من صنع ربح الآخرين.
*الشرق