سمير عطا الله يكتب:

ماء لبنان وابن خلدون

شرح مدير أحد الفنادق الصغيرة في بيروت أسباب غلاء زجاجة المياه، وبيعها بعشرة آلاف ليرة بدل الألف الواحدة، فقال عطوفته إن النادل الذي يقدم الماء في الفنادق يرتدي سترة بيضاء وسروالاً أسود؛ كلاهما مرتفع الثمن. وهذه تضاف إلى السعر الحقيقي.
لم أسمع شرحاً فلسفياً مثل هذا منذ قرأت نظرية ابن خلدون في التجارة التي لم تكن تروق له كثيراً. لكن عبقرينا التونسي يأخذ هو أيضاً عنصر كلفة اليد العاملة في الحساب، مستدركاً أن وسائلها ماكرة وأحابيلها كثيرة، وفيها شيء من القمار.
ونظر إلى التجارة في ازدراء: تتطلب الخداع، والنية على الدخول في المنازعة والخناق الدائم والعناد الطويل. ورأى صاحبنا في كل ذلك نقصاً في الرجولة والصدق! ولا شك أن التجارة ضرورة لا غنى عنها، لكنها عمل سيئ رغم ذلك.
التجارة لم تكن المهنة الوحيدة التي استنكرها. الجندية أيضاً. ويبدو أن الحياة التي حلم بها لنفسه وللعالم كانت شبه مستحيلة بسبب رقة نفسه، إذ كان يفضل أن يحصل الإنسان على رزقه من الطبيعة: في الزراعة، وصيد السمك، وصيد الطيور، والرعي، والحرف! لم يترك «وظيفة» إلا ومنعها: الخطابة، والفقه، والقضاء، مع أنه عمل قاضياً لمرحلة طويلة. بكلام آخر، كان متقشفاً إلى حد بعيد. ولذا، لم يترك لنا أية تفاصيل عن حياته الخاصة في سوريا أو مصر. لا نعرف مثلاً من هي زوجته، أو زوجاته، ولا إذا كان رزق بأبناء. في حين كان ابن بطوطة يبدأ سرد رحلاته بالحديث عما أهدي من زوجات ومنازل وسواها.
لا تزال «المقدمة» وصاحبها موضوع دراسات حثيثة في الغرب. كما لا تزال تصدر في ترجمات حديثة في لغات مختلفة. فالغرب يعتبره أحد آباء علم الاجتماع، رغم ما أهمل، لأسباب لا ندري حقيقتها: الإهمال أو الخوف أو التملق. فهو لم يأتِ مثلاً على ذكر الطاعون الذي ضرب سوريا أواخر القرن الرابع عشر. وكان من شدة تملقه إلى تيمورلنك، الجزار، أن كتب له متمنياً أن يصبح حاكماً على مصر أيضاً. ولم يحظ ابن خلدون في مصر بالتكريم الذي لقيه في سوريا، وكان عدد تلامذته فيها أقل بكثير منهم في دمشق.
دراسات كثيرة بقيت، ونظريات أخرى لم تعش، ومنها أنه كلما كبرت المدن زادت ثروتها. لا ينطبق ذلك اليوم على القاهرة أو مومباي أو ريو دي جانيرو، إلا أنه يصح عن نماذج كثيرة أخرى. وكان بالتأكيد ينطبق في زمنه على بغداد ودمشق.
ولا يزال مديرو الفنادق الصغيرة في بيروت يطبِّقون نظرياته، ولكن برفع السعر عشر مرات.
*الشرق