شيماء رحومة تكتب:

شرف المرء في إعمال العقل

لفت انتباهي مشهد يتكرر بانتظام، وهو مدروس، يحرص أصحابه على استفراغ كل شحناتهم السلبية داخله، ولا يختلف في ذلك ذكر عن أنثى، كلاهما يهرع سواء في دراما محلية أو أجنبية عربية أو عالمية، إلى الارتماء تحت دفق مياه حوض الاستحمام، حتى صار بإمكان أي مشاهد حبك المشهد وتجميع لقطاته بامتياز في ذهنه استباقا للأحداث، حالما يتعرض أحد الممثلين إلى اعتداء جنسي.

ولم يعد خافيا على المشاهد إجماع كتاب السيناريوهات والمخرجين على مبدأ ضرورة الاغتسال بعد الاغتصاب، في طقوس توحي بمحاولات الضحايا محو الاعتداء رمزيا.

وهذه العملية الرمزية تظهر من جديد في مشهد مناقض، تستوحي فيه عائلة الضحية مفردة غسل العار من خلال طقس الاستحمام، فتتداخل المشاهد ويتم توجيه الأحداث في اتجاه واحد يتلخص في النظافة وتلميع الشرف. لكنني أعيب على كتاب السيناريوهات أمرا لا أدري لماذا يقع غض الطرف عنه، وهو تنظيف العقول بدل غسل الأجساد وكأنه عبء ثقيل، لا يكفي الماء لتطهيرها ولا يطفئ لهيبها إلا إراقة الدماء؛ غسل الدم بالدم في تطبيق دقيق للآية الكريمة “وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص”.

ولعل ما يثير الاهتمام فعلا أن عجلة الزمن أخذت استراحة مطوّلة مع هذا المشهد ولم يفعل مرور السنين فعله فيها، كبرت وأترابي لكن اللقطات لم تشخ بعد، نفس الحركات كنت قد شاهدتها طفلة لا تعي شيئا وخبرتها في صباي، لا أزال شاهدة عليها. لذلك أتسأل أين صناع الدراما من المبدأ الذي نشأنا عليه وهو مواكبة تطورات العصر؟ أين هم من فكرة إحداث الفارق بين الأمس واليوم؟

أرى أن هذا الإصرار على تكرر ذات المشهد يكشف عن مباركة المجتمع البطريركي وإعادة إحيائه رمزيا كلما سنحت الفرصة، فكر ذكوري صرف لم يتغير قيد أنملة رغم ادعاءات التفتح، والمشكل أن المشهد ليس قسرا على الدراما العربية بل إنه يتواجد بانتظام في الدراما العالمية، إذن هل الغرب هم أيضا يشاركوننا ذات العقلية؟ طبعا لا لأنهم يكتفون بمشهد الاستحمام ويسقطون مشاهد غسل العار، وقد يستبدلون مشهد حفظ الشرف بإسالة الدماء بمشهد بديل يريق فيه الضحية دماء المعتدي انتقاما.

قد يكون للضحية مبررها للاغتسال لأنها تحاول محو أثار جسد الآخر المعتدي عليها بالقوة لكن مبرر أفراد عائلتها من الذكور يختلف تمام الاختلاف ولا يمت بصلة إلى الرغبة في حمايتها، بل ينحصر جل تفكيرهم في تطهير اسم العائلة حتى وإن كانت أنثاهم ضحية.

وللأسف تذهب فتيات في أعمار الزهور ضحية طرفين، كلاهما يشدها إلى ظلمة القبر، المغتصب من جهة وأعراف ونواميس مجتمعها العربي من جهة أخرى.

فقط لو يحاول صناع الدراما خلق نوع من التصالح بين الضحية سواء كانت ذكرا أو أنثى، إذ أن مشاهد اغتصاب الذكور صارت تطالعنا في الكثير من المشاهد بوصفها أضحت من الجرائم المتفشية، ولا سيما في السنوات الأخيرة، وبين جسدها بالدرجة الأولى، لأن القطيعة بينهما تخلق شرخا أعمق من سكين غسل العار وأشدّ ألما من غدر الحبيب أو الصديق أو عابر السرير.

وهناك مهمة أخرى على كاميرات السينما والمسلسلات التقاطها وانتقاؤها بدقة وهي إعادة برمجة العقليات الذكورية التي تخفي خوفها من مواجهة الآخر متمثلا في المجتمع والقبيلة والعائلة وراء كواليس أخذ روح الضحية لتغدو بطلا في أنظار الآخرين ولتبرّئ ذمتها من جسد عَبث أو عُبث به.

شاهدت عدة لقطات تتداخل بين صوت المياه مختلطا بعبرات الضحية، وبين صوت الرصاص يمتزج بدماء الضحية، لكنني إلى الآن أبحث عن مشهد خارج عن المألوف في مجتمعاتنا العربية علّي أجد صدى لكلمات توماس أديسون “وظيفة الجسد الرئيسية هي حمل الدماغ”، فلا علاج لأي خلل سواء في العائلة أو المجتمع إلا بإعمال العقل