حسن عبدالوارث يكتب:

مدرستي

تواترت القصص مؤخراً عن عجز العديد من الأُسَر عن الايفاء بمتطلبات موسم المدارس لهذا العام، ما أضطرها إلى ابقاء أولادها في البيوت. فيما قرَّر وزير التربية اعفاء الطلبة من التقيُّد بالزي المدرسي، تخفيفاً على هذه الأُسَر في ظل الظروف المعيشية المتردّية يوماً اثر آخر جراء الحرب القائمة منذ أربع سنوات. أثار هذا المشهد خواطري للمقارنة بين حال المشهد المدرسي في أيامنا والمشهد نفسه في هذه الأيام. وعادت بي الذاكرة إلى مدرستي التي كانت تجمع لفيفاً من الطلبة يقطنون أحد أحياء مدينة عدن.

وكانت المدرسة التي تحمل تسمية اليوم الذي أُختير عيداً للعلم في الجنوب يومها، مثالاً لحالة النسيج الطبقي والاجتماعي الواحد والسائد حينها تحت مُسمّى البروليتاريا. كانت الدراسة حالة مبدعة، والمدرسة دوحة ممتعة، والدولة داعمة رائعة. وبرغم أن التعليم أيامها كان مجانياً، الاَّ أنه لم يكن مُتدنّياً البتة. وكان المعلمون على قدر واضح من الثقافة والمثابرة والاجتهاد والاخلاص للمهنة كرسالة لا كوظيفة.

وكان الزي المدرسي موحداً وزهيد الثمن، والكتب متوافرة دون نقصان، والأدوات المدرسية رخيصة وممتازة. وقد كان هذا المشهد انعكاساً للمشهد العام وهو بساطة الحياة اجمالاً.. وبالتالي أنعكس هذا الملمح على أوضاع الطلبة واهتماماتهم.. فلم تكن حينها ثمة سطوة للكماليات والزخارف الشكلانية، على العكس مما هو قائم اليوم في أوساط الطلاب والشباب. كما لم يكن أحد يرى زميله أفضل منه أو متميزاً عنه في ملبس أو مأكل أو مُقتنى مادي من أي نوع.

ويذكر كل من عاش الحياة الطلابية في تلك الفترة أن ابن الوزير وابن الغفير كانا يلبسان الزي الرخيص نفسه، ويتناولان الطعام البسيط نفسه، ثم يأتيان إلى المدرسة ويعودان إلى المنزل مشياً على الأقدام أو ركوباً في الحافلة العامة زهيدة الأجرة. وفي مدرستي تخرَّج عدد كثير من خيرة الطلبة ممن كانوا نموذجاً ساطعاً للذكاء والكفاءة والمثابرة، بفضل المدرسة وأساتذتها.

وقد واصلوا رحلتهم العلمية ثم العملية والحياتية، فصار من بينهم بعدها نائباً لرئيس الجمهورية ورئيساً للحكومة ووزراء وسفراء وقضاة وقادة جيش وأمن، كما صار من بينهم رؤساء مؤسسات كبرى وأساتذة جامعة وباحثين أكاديميين ومحامين وأسماء لامعة في عوالم الثقافة والصحافة والأدب والفن. حتى المعلمين أكمل عدد منهم دراساته الأكاديمية حتى بلغ أرقى المراتب العلمية والمدارج العملية.

ولم تكن مدرستي مجرد مبنى لتلقين الدروس المصبوبة في الكتب الدراسية المقررة، فقد تعلّمنا فيها قيماً ومُثُلاً ومبادىء أعظم ألف مرة مما أحتوته الكتب، وهو ما كان زاداً دسماً وكنزاً نفيساً رافقنا وأعاننا طوال مراحلنا العلمية ثم حياتنا العملية ومشوارنا الاجتماعي العام. فقد كانت المدرسة البوابة المُثلى التي يدلف منها المرء إلى حيث يتلقى خير زاد ثم يخرج منها إلى حيث يحقق النجاح الحقيقي بالاستعانة بذاك الزاد.

الشكر الجزيل لمدرستي العظيمة.. والشكر الكبير لباقة المعلمين الأفاضل.. والشكر الجميل لزملائي الذين صار بعضهم أصدقاء عمر ورفاق رحلة طويلة.. وقبلها وبعدها، الشكر الأسمى لذلك الزمن الراقي الذي أحزن كثيراً جداً حين أدري أنه لن يتكرّر البتة!