سمير عطا الله يكتب:
الاستكبار في الجوار
أكثر ما يشل الإنسان عن التفكير، الجوع والخوف. فالجائع لا يستطيع أن يفكر بأكثر من رغيف. ولذلك، تعيش شعوب بأكملها، عصوراً بأكملها، على قبضة من الأرز أو ربطة من الخبز. والخائف لا يفكر إلا في خوفه، ولا يستطيع أن يحلم، أن يخطط، أو يفكر، لأن الشك يصور كل رجل، أو حركة حوله، خطراً عليه. لا يثق بشيء أو بأحد.
ما ينطبق على الفرد ينطبق على الدول. شلَّ خوف أميركا من الشيوعية وشلّ خوف الشيوعية من أميركا حركة العالم أجمع. قام بين المعسكرين ستار حديدي وهمي، جعل كلاً منهما يصرف معظم ما لديه على السلاح. وصرف المعسكران مئات المليارات على أسلحة لا يمكن (والحمد لله) استخدامها. وكان نصف العالم على الأقل في حاجة إلى الخبز والمدارس والأدوية، فأرسلت إليه شحنات من الأسلحة.
جُعل لكل دولة عربية هادئة وسواس يعكر هدوءها. وصارت كثير من الدول تخاف جارها وشقيقها أكثر مما تخشى إسرائيل. وقررت كل دولة قوية أن تكون شريكة، أو وصية، على دولة ضعيفة. ويفضل أن تكون ميسورة أيضاً. وانضمت إلى المجموعة المستقوية إيران، التي رأت هي أيضاً في الجوار الجغرافي حقاً لها في كسر الحدود والقفز فوقها.
عندما عبرتُ الحدود البريطانية إلى فرنسا من دون أن أرى شرطياً واحداً، شعرت بالفزع كأنني ارتكب خطأ. لكن تلك كانت أوروبا الجديدة بعيداً عن بوارج نلسون ومدافع نابليون. عندما اطمأن كل بلد أوروبي إلى أمن حدوده وهويته أصبحت الوحدة تلقائية. لكن نحن في العالم العربي لا نجرب سوى الكوابيس والهواجس. منذ أيام الشاه وإيران تمارس في الخليج مبدأ الأكثر قوة. وتتصرف في العراق وسوريا ولبنان واليمن على أنها صاحبة القرار السياسي. وهي لا تحارب الولايات المتحدة استناداً إلى قوتها المجردة، بل إلى ما لها من نفوذ أو امتداد في المنطقة.
والنتيجة أن إيران تزرع في نفسها، وفي جوارها، خوفاً يشل أي حركة نحو المستقبل. صحيح أنها حققت لنفسها وجوداً يخيف الجوار، لكنه لا يبعث على أي شعور آخر. لا بالتعاون ولا بالمودة ولا بالطمأنينة. عندما عاد جيش صدام حسين من إيران، وبعدها من الكويت، رأى الكثيرون في ذلك مرحلة جديدة قائمة على التعقل وأسس الجوار وآداب التعاون.
لكن إيران، مثل صدام، اختارت طريق الاستقواء والغطرسة في منطقة قائمة على الهدوء والازدهار. وبدل أن ترسل جيوشها مثله، أرسلت المستشارين والحرس الثوري، والتقطت لهم الصور التذكارية في كل الجبهات. ولا شك أنها حققت نصراً عسكرياً في حرب سوريا، لكن كم يساوي هذا النصر أمام هذا المد الهائل من الخسائر؟ لعلها تتذكر أنها بدأت ثورتها بنقد «الاستكبار». ولم تمارس سواه.