هاني مسهور يكتب :
حضرموت وصراع الايدلوجية اليمنية
هل الوحدة اليمنية مشروع طائفي أم وطني؟، يبدو تساؤل مستفز للغاية ولكن هذا التساؤل يحمل إجابات لما يحدث في جنوب الجزيرة العربية من صراعات، فالكثير من المراقبين للمشهد اليمني يصابون بالحيرة عندما يأتي الاستفسار عن سؤال لماذا لم تتحرر أي محافظة من محافظات الشمال اليمني على رغم مضي أكثر من ثلاث سنوات ونصف فمازالت المحافظات الشمالية تحت سيطرة الحوثيين، وبالعودة إلى ما يمثله الحوثي من نسبة فهو لا يتجاوز الثلاثة بالمئة من عدد سكان الجمهورية اليمنية، فكيف استطاع الحوثي إخضاع ملايين اليمنيين بل كيف لم تقم محافظة واحدة بثورة ضد الحوثي؟، اسئلة كهذه لا يحبذها اليمنيين لأنها تلامس أكثر مشاعرهم وتضعهم أمام السؤال الاستفزازي : هل الوحدة اليمنية مشروع طائفي أم وطني؟.
نشرت صحيفة العرب اللندنية مقالة غاية في الأهمية للأستاذ خيرالله خيرالله بتاريخ 11 سبتمبر 2018م حملت عنوان (كلما عرفت اليمن.. أدركت كم تجهله) جاء في خلاصته قراءة لافتة لرجل عارف باليمن وليس من أهله " إذا كان مارتن غريفيث يعتقد أنّ اليمن بلد طبيعي، من الأفضل أن يستعين بما يقوله الذين لديهم خبرة سنوات مع هذا البلد وأمضوا أياما طويلة فيه منذ ما يزيد على ثلاثين عاما. يقول هؤلاء: كلما عرفت اليمن، كلّما أدركتَ كم أنك تجهله!"، وقد يكون هذا الرأي تعبير صادق عن مدى صعوبة معرفة الصراع اليمني المعاصر لأنه ينطلق من صراع موغل في التاريخ فيكفي أن أكثر من ألف عام حكم اليمن الإمامة بالعقيدة الطائفية وحتى أن أدعى اليمنيين غير ذلك فأفعالهم تنفي ادعاءاتهم.
كان أئمة اليمن يتطلعون دائماً إلى التمدد وبسط حكمهم على شبة الجزيرة العربية، وكانوا يشعرون باستمرار أن سيطرتهم لن تنجح بغير إخضاع حضرموت أولاً لسيطرتهم السياسية ، فأهمية حضرموت تكمن في عمقها المذهبي الذي نشأ فيها المذهب الشافعي بعد أن نزل فيها أحمد بن عيسى المهاجر عام 319 هـ وهو من آل البيت هاجر من العراق وخاض صراعاً مع الإباضية انتهى بتمكن المذهب الشافعي في حضرموت وتحولها إلى المذهب السني لتواجه بعد ذلك صراعات من الشرق إباضية ومن الغرب زيدية غير أن الشافعية بقيت على مدار الحقب التاريخية قادرة على تحمل الصراعات السياسية وظلت حضرموت عبر القرون منبعاً عقدياً سنياً توسع إلى خارجها عبر الهجرات الحضرمية للشرق الآسيوي والهند وشرق القارة الأفريقية.
في التاريخ الحديث عدة مفاصل تؤكد هذا الصراع وخلفياته العميقة خاصة في شمال اليمن أو ما يسمى الهضبة حيث تتعصب المذهبية إلى أقصى أبعادها وتشمل محافظات (عمران وصعدة وصنعاء) ، ولعل الإشارة إلى ثورة 26 سبتمبر 1962م التي اسقطت الحكم الإمامي في اليمن تمنح نقطة بديعة للغاية في معرفة الصراع المذهبي فالثورة التي قام بها مجموعة من الضباط لتدخل صراعاً بين الملكيين والجمهوريين حتى (مايو 1965م) بانعقاد مؤتمر خمر، ويمكن توصيف ذلك المؤتمر بأنه بداية عقد الزواج بين الإمامة والجمهورية وتبدو شهادة شيخ قبيلة حاشد عبدالله بن حسين الأحمر التي أوردها في مذكراته أبلغ تأكيد على أن ما تم هو عقد قِران بين نظامين يجمع بينهم القبيلة والمذهب الزيدي.
بعد حصار السبعين توافقت السعودية ومصر حول اليمن ودخلت (الجموملكية) مرحلة أخرى تعطي أيضاً إشارة بالغة في عقيدة الشمال اليمني، فلقد وصل إلى السلطة الرئيس إبراهيم الحمدي (يونيو 1974م) وهو لا ينحدر إلى الهضبة العُليا فهو من مديرية قعطبة وهو الوحيد الذي واجه الحكم القبلي في اليمن بصرامة واتخذ خطوات تصحيحية في أجهزة الجيش والأمن والدولة وواجه عبدالله بن حسين الأحمر مواجهة صارمة وجرده من امتيازات شأنه شأن كل مشايخ اليمن.
اغتيل ابراهيم الحمدي (اكتوبر 1977م) وككل الاغتيالات في اليمن جنوبه وشماله مازالت حادثة اغتيال الحمدي سراً من الاسرار الكبيرة وتعد واحدة من أعقد جرائم الاغتيال السياسية في العالم، وخلف الحمدي الرئيس الغشمي الذي استمر ثمانية أشهر ليتم تصفيته ويصل إلى السلطة الرئيس علي عبدالله صالح (يونيو 1978م) ، يُمثل الرئيس صالح الابن الشرعي لما حدث مؤتمر خمر وهذا واحد من أهم أسباب حضوره الأطول في التاريخ السياسي اليمني كحاكم فلقد حصل على حصانة القبيلة وسدنة المذهب الزيدي وخدمته الصراعات في جنوب اليمن خاصة بعد احداث 13 يناير 1986م ليصل إلى ما هو أبعد بوصوله إلى حكم اليمن الكبير (مايو 1990م).
في حرب صيف 1994م نجح علي عبدالله صالح في توظيف العصبية المذهبية الزيدية لمصلحة الحرب على الجنوب كما كان قادراً على تطويع الخطاب الإخواني لمصلحته بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك كله باجتذاب الأفغان العرب في الحرب، تحويل الحرب السياسية إلى حرب مقدسة كان عبقرية من علي عبدالله صالح فلقد استند في الواقع على البعد القبلي لذلك وجدنا كل الفتاوى التكفيرية ينتمي أصحابها للهضبة اليمنية فهناك تجد العصبية منبعها وقوتها وحتى نفوذها.
احتدام الصراع ستظل تغذيه العصبية القبلية الموصولة تاريخياً بالمذهبية الزيدي، إرث ألف عام تتوارثه الأجيال وتدفع ثمنه أجيال، لن يتخلص اليمن الأعلى من كل هذه التعقيدات التي تحولت مع الحوثي إلى جمرة من نار تحرق كل ما حولها ، وتبدو الصعوبة في إطفاء هذه الجمرة مع العقلية التي تتعامل معها بدون قدرة على استفهامها، ومتى ما عرف الإقليم والعالم أن هذه الجمرة لا يمكن أن تطفئ بغير نقل العاصمة صنعاء إلى الحديدة للتخفيف من التعصب القبلي والعمل الحقيقي على احتواء الجنوب سياسياً وإلا فأن استدامة الصراعات الايدلوجية ستبقى تشعل اليمن والمنطقة.