رفيق الشرعبي يكتب لـ(اليوم الثامن):
مغامرة التمرد الصامت نحو صناعة الذات في عالم الولاءات
في ظل التحولات السياسية والاجتماعية المتسارعة، تبرز قضية المرأة المستقلة غير المنتمية للأحزاب بوصفها أحد المحاور الأساسية للتنمية والبناء، بل نموذج يستحق التأمل والدراسة.
ليست هذه المرأة مجرد كائن خارج الاصطفافات، بل هي كيان واعٍ يرفض الانحصار في الأطر التقليدية، ويختار أن يكون صوته حرًّا رغم كل التحديات.
إنها باختصار، مغامرة التمرد الصامت على عالمٍ يحكمه منطق الولاءات، وصيحة متأنية في وجه نظام يقدم الانتماء على الكفاءة.
تجد المرأة المستقلة نفسها متشابكة بين رغبتها العارمة في المشاركة الفاعلة، وبين أنظمة مجتمعية وسياسية تقف في طريق تحقيق طموحاتها. تارة تهمس بصوتٍ داخلي: "أنا قادرة"، وتارة تصطدم بجدران الصمت والتهميش والتشكيك، فتُدفَع إلى زاوية الدفاع عن النفس لا بسبب نقصٍ فيها، بل لأن استقلالها بحد ذاته يهدد توازنات قائمة.
هذا النوع من النساء يخوض معركة يومية لإثبات الذات، لا بالسلاح، بل بالصبر والتفوق والمثابرة.
من الناحية النفسية، تعاني المرأة المستقلة من شعور العزلة والوصم، نتيجة لغياب الدعم المؤسسي والتنموي الذي توفره التنظيمات السياسية، ولا تجد من يواسيها حين تُقصَى، ولا من يفتح لها الأبواب حين تغلق، فيتسلل إليها الإحساس بالاغتراب كظلٍ لا يغادرها. كل قرار تأخذه يبدو وكأنه نابع من معركة داخلية، بين قناعة تؤمن بها، وخوف مشروع من الخسارة. في كثير من الأحيان، تغدو ثقتها بنفسها هي رأس مالها الوحيد، لكن هذا الرأسمال معرض للاهتزاز حين يتحول الفضاء من منافسة عادلة إلى ميدان استبعاد ممنهج.
اجتماعيًا، يتجلى التناقض بين تفوقها التعليمي والمهني، وبين القيود التقليدية التي تفرض عليها عند كل محاولة للظهور في ميادين القرار العام.
ينظر إليها بعين الريبة، وتحاجج في دوافعها، ويعاد تعريفها وفقًا لصور نمطية لا تليق بها، ويطلب منها أن تكون "نموذجية" كي تقبل، بينما يسمح لغيرها أن يكونوا عاديين ويحتفى بهم، ويمارس ضدها نوع من الإقصاء الناعم، حيث لا تمنع صراحة، لكنها تُحاصَر بلغة التشكيك وتضييق المساحات.
وفي الفضاء المهني، تصطدم المرأة المستقلة بتحالف غير معلن من الزملاء والإدارات التي تفضل "الموالين". ويقال إن الكفاءة هي المعيار، لكن ما يطبق فعليًا هو الولاء. وتقصى من دوائر النفوذ، لا لنقص في تأهيلها، بل لأنها لا تشارك في لغة المصالح المشتركة التي تحكم اللعبة، وتصبح كأنها في سباق تُغير قواعده كلما اقتربت من الفوز. ويُنظَر لاستقلالها بوصفه تهديدًا لا مصدر إثراء، ويراد لها أن تكتفي بما يمنح لا بما تستحق.
سياسيًا، تغدو مشاركتها مغامرة محفوفة بالمخاطر، والأنظمة والقوانين القائمة لا تترك مجالًا واسعًا للتعبير عن رأيها والإسهام الفاعل في صنع القرار. ولا تملك دعمًا ماليًا، ولا سندًا قانونيًا كافيًا، ولا جهازًا حزبيًا يروج لها. وتُترك في ميدان مفتوح لتنافس من يمتلك أدوات الدولة والحزب والمال والقبيلة. فتشارك وكأنها في معركة بلا درع، وتحاسب على أخطائها مضاعفًا، فيما تُمرر إخفاقات غيرها بلا مساءلة.
ورغم هذه التحديات، لم تستسلم هذه الفئة، بل صنعت طرقًا بديلة للوصول إلى الجمهور والتأثير في المشهد العام. وظهرت نماذج نسائية مضيئة استطاعت اختراق هذه الجدران عبر كفاءاتهن المهنية، وشبكاتهن الاجتماعية، والمنصات الإعلامية الحديثة.
لم تنتظر المرأة المستقلة أن تمنح مساحة، بل صنعتها بنفسها. وكانت "منصة المرأة المستقلة" تتويجًا لهذا التحدي. ولم تكن مجرد وسيلة تواصل أو مبادرة عابرة، بل كانت إعلانًا عن كيان جديد يتحدى السائد، ويمنح المرأة المستقلة هوية جماعية بعد طول عزلة.
من خلال هذه المنصة، وجدت كثير من النساء فضاءً للتعبير، ومجالًا للتنظيم، ومنبرًا لكسر الصورة النمطية. إنها مبادرة ولدت من رحم الحاجة، واستندت إلى الإرادة الحرة في صناعة الفعل، لا إلى المحاصصة أو الامتيازات. لم تسعَ فقط للتمثيل، بل أعادت تعريف شروطه، وفتحت بابًا أمام تحالف نسوي جديد يتجاوز الانتماءات التقليدية، ويعيد الاعتبار للفرد في زمن الكتل.
لكن، خلف هذا الحضور، تكمن معاناة خفية. كثيرات يعانين مما يمكن تسميته "متلازمة المحارب المنهك". الاستنزاف النفسي الناتج عن النضال الفردي، ثقل المسؤولية المستمرة، والشعور بأن النجاح لا يُعد إنجازًا بل مجرد دليل على الصلاحية، كلها عوامل تُثقل كاهلهن، وتُربك مسيرتهن.
تمكين المرأة المستقلة، إذن، ليس ترفًا، ولا موضوعًا هامشيًا في جداول التنمية، بل هو ضرورة استراتيجية لبناء مجتمع يستند إلى مبادئ المواطنة المتساوية، والتنافسية العادلة، ويتطلب هذا التمكين رؤية شاملة ترتكز على إصلاح الأنظمة التعليمية والثقافية لتشجيع الاستقلالية والقيادة، وتعديل الإطار التشريعي والسياسي بما يضمن تكافؤ الفرص، ويقتضي ذلك أيضًا بناء آليات دعم مالي وفني مبتكرة، وتعزيز حملات توعوية تُعيد صياغة صورة المرأة في الوعي الجمعي، وتفك الارتباط القسري بين الفاعلية السياسية والانتماء الحزبي.
المرأة المستقلة لا تطالب بمقعد على طاولة صنعها الآخرون، بل تسعى إلى تصميم طاولة جديدة تتسع للتنوع والتعدد والاختلاف الخلاق، إنها ليست ردة فعل على فشل الأحزاب فحسب، بل هي مؤشر على نضج الوعي العام، ودعوة لمراجعة عميقة لطرق تنظيم الشأن العام، إنها الجسر الممكن بين المكونات المختلفة، والمشروع السياسي الجديد الذي يؤمن بالناس لا بالولاءات.
المستقبل، ببساطة، لا يُبنى بالولاءات العمياء، بل بالكفاءات الحرة التي تجرؤ على أن تكون نفسها.
واستثمار طاقات المرأة المستقلة ليس خيارًا، بل واجب وطني لا يحتمل التأجيل، فالمجتمع الذي يُقصي طاقاته الإبداعية، هو مجتمع يحكم على نفسه بالتراجع.