خير الله خير الله يكتب :
بقي بوتفليقة أم لم يبق
أيّ جزائر في نيسان - أبريل من السنة 2019 عندما تنتهي الولاية الرئاسية الرابعة لعبدالعزيز بوتفليقة. هل يقضي بوتفليقة نهائيا على حكم العسكر الذي حرمه من الرئاسة في العام 1979 عندما أراد خلافة هواري بومدين واعتبر نفسه، حينذاك، وريثه الشرعي؟
حسنا، قد يستطيع عبدالعزيز بوتفليقة، على الرغم من وضعه الصحّي، تفكيك النظام الجزائري وتغيير طبيعته ولكن هل يستطيع تشكيل نظام جديد بديل من ذلك الذي استمرّ منذ العام 1965 وحتّى منذ الاستقلال في العام 1962؟
كان مفترضا أن يخلف عبدالعزيز بوتفليقة هواري بومدين. هكذا، على الأقلّ، كان يتصور الرجل الذي كان وزيرا للخارجية منذ الانقلاب الذي أطاح بأحمد بن بلة وأوصل بومدين إلى الرئاسة في 1965.
لكنّ العسكر قرروا استبعاده علما أنّه كان ينتمي إلى الحلقة الضيقة، التي لا يتجاوز عددها أربعة أو خمسة أشخاص، والتي كانت تحيط ببومدين ولا تفارقه في أيّ وقت… إلى أن وجد شريكة لحياته هي السيّدة أنيسة، وقرر الزواج منها وذلك قبل سنوات قليلة من إصابته بمرض غامض أدّى إلى وفاته في أواخر العام 1978. لولا العسكر، لكان بوتفليقة يحكم الجزائر منذ العام 1979.
قرّر بوتفليقة الانتقام من العسكر ومن النظام الذي جعله ينتظر عشرين عاما قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية. جعله ينتظر كلّ هذه السنوات الفرصة المناسبة للانتقام من كبار الضباط. يعود ذلك إلى أن هؤلاء اختاروا أن يكون الشاذلي بن جديد خليفة لهواري بومدين بصفة كونه الضابط الكبير، برتبة كولونيل (عميد)، الذي يتمتع بأقدمية على رفاقه.
في الواقع، كانت المنافسة على الرئاسة، بعد وفاة بومدين، بين بوتفليقة ومحمد صالح يحياوي ممثل حزب “جبهة التحرير الوطني” الحاكم والذي كان يتمتع بتأييد من الكوادر التي تتحكم بالإدارة الجزائرية.
لكنّ الجيش قرّر أن يكون صاحب الكلمة الأخيرة. جاء بالشاذلي بن جديد كي يوفّر غطاء للنظام الذي تحكّم بالجزائر في عهد بومدين والذي كانت في أساسه الأجهزة الأمنية العسكرية. هذا النظام الذي صار يرمز إليه، في مرحلة معيّنة، الجنرال محمد مدين المعروف باسم حركي هو “توفيق” الذي بقي لفترة طويلة الرئيس الفعلي للجزائر.
لم ينس بوتفليقة يوما ما فعله به كبار ضباط الجيش الجزائري، بما في ذلك الاتهامات بالفساد التي وجهت إليه في أثناء توليه وزارة الخارجية بين 1965 و1979.
لم ينس أنهم أجبروه على ترك الجزائر والعيش سنوات عدّة في دولة الإمارات التي استضافته وأكرمته وقدمت له تسهيلات كثيرة. لم ينس خصوصا أنّه لم يستطع أن يكون رئيسا للجمهورية في العام 1999 إلاّ بعدما وجد كبار الضباط، بمن فيهم “توفيق” أن لا خيار آخر غير الاستعانة بشخصية تاريخية مثل بوتفليقة لترميم النظام الذي أقامه العسكر. تعرّض النظام لهزّة كبيرة بدأت في خريف العام 1988 واستمرت عشر سنوات سميّت “العشرية السوداء”.
تواجه الجزائر في أيّامنا هذه منعطفا تاريخيا يمكن أن يرسم مستقبل البلد الذي بات يطرح فيه سؤال في غاية البساطة. كيف يمكن لعبدالعزيز بوتفليقة أن يرشّح نفسه لولاية رئاسية خامسة، علما أنّه على كرسي نقال منذ العام 2015 تاريخ إصابته بجلطة في الدماغ أفقدته القدرة على المشي وعلى التركيز.
من الصعب فهم كيف يمكن لبوتفليقة أن يطرح نفسه مرشّحا للرئاسة في نيسان – أبريل 2019، لكنّ من السهل فهم إصراره قبل انتهاء ولايته الرئاسية الرابعة على الانتهاء من نظام حرمه من الرئاسة في العام 1979 لدى وفاة هواري بومدين.
كلّ ما يريده بوتفليقة هو تفكيك النظام. كلّ ما يريده المحيطون به هو ضمان عدم تسمية العسكر لخليفة بوتفليقة. هؤلاء، على رأسهم سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس الجزائري يريدون نظاما جديدا بعيدا عن العسكر. سيستخدم هؤلاء حقد الرئيس الجزائري إلى أبعد حدود على العسكر من أجل إقامة نظام جديد يضمن عدم التعرّض لهم مستقبلا في حال فتحت ملفات استطاعوا إغلاقها. من بين الملفّات ملفّ وزير النفط السابق شكيب خليل الذي كان في الوقت ذاته المدير العام لـ”سوناطراك” الشركة الحكومية المسؤولة عن تسويق النفط والغاز طوال نحو عشر سنوات.
بوتفليقة قرر الانتقام من العسكر ومن النظام الذي جعله ينتظر عشرين عاما قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية… لم ينس بوتفليقة يوما ما فعله به كبار ضباط الجيش الجزائري، بما في ذلك الاتهامات بالفساد التي وجهت إليه في أثناء توليه وزارة الخارجية بين 1965 و1979
ليس الموضوع التجديد لبوتفليقة أو عدمه. الموضوع مرتبط بتفكيك نظام قائم استطاع التحكم بالجزائر منذ عهد هواري بومدين. هذا النظام كان وراء الإتيان بالشاذلي بن جديد رئيسا للجمهورية ثمّ إزاحته بعد فوز الإسلاميين بالانتخابات البلدية. بكلام أوضح، كان الضبّاط وراء منع الإسلاميين من تولي السلطة وخلف إبعاد بن جديد ووراء الاستعانة بعبدالعزيز بوتفليقة مجددا.
ما يلعب في مصلحة تفكيك نظام العسكر، أي نظام الأجهزة الأمنية، تمكّن بوتفليقة من التخلّص من “توفيق” في 2015 وقبله من اللواء محمد العماري. أعاد النظر بكل تركيبة الأجهزة الأمنية التابعة للجيش بعدما أصبح “توفيق” في منزله. ليس ضروريا أن يكون الرئيس الجزائري نفسه وراء الإجراءات المتخذة. هناك من ينفذ رغبته وينفّس عن كلّ الحقد الذي في داخله.
ليس صدفة أنّ هناك من استغلّ عملية تهريب الكوكايين إلى أبعد حدود. فجأة اكتشفت في أيّار – مايو الماضي عملية تهريب لكمية من الكوكايين يقدر وزنها بـ570 كلغ. أُقيل بعد ذلك مسؤول المالية في وزارة الدفاع بوجمعة بودواور ومقداد بن زيان مدير المستخدمين في الوزارة نفسها. أقيل أمنيون كبار. حصل انقلاب حقيقي تمثّل في إقالة ضباط مرموقين لم يكن مسموحا لأحد المسّ بهم من بينهم قائد الشرطة. لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، إذ أطيح بعشرة من كبار الضباط. طار أيضا قائد أركان القوات الجوية عبدالقادر لوناس وقائد القوات البرية أحسن طافر. بكلمة، جرت عملية إعادة تشكيل لقيادة الجيش.
ما شهدته الجزائر كان انقلابا على العسكر، بكل ما في كلمة انقلاب من معنى. ليس صحيحا أنّ هذا الانقلاب يمهّد بالضرورة لولاية خامسة لبوتفليقة. لا يوجد عاقل في الجزائر يعرف أن ذلك ممكن. ما يعرفه الذين يديرون اللعبة في الجزائر حاليا هو كيفية استغلال غطاء اسمه بوتفليقة في انقلاب على نظام العسكر تمهيدا للإتيان برئيس جديد يحمي كلّ أفراد المجموعة التي أحاطت بالرئيس الجزائري في السنوات القليلة الماضية.
الأهمّ من ذلك كلّه، سؤال في غاية البساطة: هل احتمال قيام نظام مختلف في الجزائر وارد؟ ليس مطلوبا تغيير النظام بمقدار ما أن المطلوب تغيير الذهنية التي حكمت الجزائر منذ الاستقلال والتي أدت إلى جعل البلد ينتقل من فشل إلى آخر على الصعيد الداخلي ويسعى في استمرار إلى تصدير أزماته إلى خارج.
بقي بوتفليقة أم لم يبق ليست تلك المسألة. المسألة أن يقتنع النظام الجديد الذي سيقوم في الجزائر أن البلد يعاني من احتقان حقيقي بعد فشله المرّة تلو الأخرى في مواجهة الواقع المتمثل في أنه ليس، بفضل النفط والغاز، قوّة إقليمية قادرة على الهرب من مشاكل يعاني منها الجزائريون عن طريق خلق مشاكل لجيران الجزائر.