سمير عطا الله يكتب:
شعراء المدار
21 ديسمبر (كانون الأول) 1968 كان موعد إطلاق «أبولُّو 8»، ثاني عربة فضاء أميركية مأهولة، ومهمتها تصوير المكان الذي سيهبط فيه الإنسان على القمر نفسه. ومن أجل رؤية هذا المشهد أقامت وكالة «ناسا» الأميركية مركزاً خاصاَ في باريس دعت إليه العلماء والصحافيين من أنحاء العالم.
كانت العادة في «النهار» أن أُكلَّف أنا تغطية أحداث فرنسا. وجهت الدعوة شخصياً إلى غسان تويني، واختار هو أن يرافقه الشاعر أنسي الحاج. تساءلت في نفسي، لماذا؟ هل أنا قاصر عن إدراك معاني الحدث؟ وأبقيت التساؤل ضمني. فربما كان هذا الرائد يريد أن يحقق إبداعاً آخر: تحويل الشاعر إلى مراسل.
مضى الآن نصف قرن كامل، وإذ أقرأ في كتاب «العالم المكتوب» لمارتن بوكنر أن الرواد الثلاثة عندما خرجوا من مدار الأرض الأسفل متجهين إلى القمر، تحوّلوا أمام ذلك المشهد المذهل، من طيارين إلى شعراء. وها هو قائدهم فرانك بورمان يخاطب مركز المراقبة على الأرض قائلاً: «يا له من مشهد هائل. نوع من الوجود المدهش، فسحة هائلة من اللاشيء». ثم مضت العربة تدور حول القمر بسرعة 24207 أميال في الساعة، أي أسرع ما عرفه إنسان من قبل.
وخاطب الرائد الثاني جيمس لوفيل 500 مليون مشاهد يتابعونه على الأرض قائلاً: «هذه العزلة الهائلة هنا قبالة القمر تبعث الروعة في النفس». لقد تحول الرواد من تلقائهم إلى شعراء. ولم تعد هناك لغة قادرة على التعبير في وصف ذلك المنظر الذي لم تقع عليه عين بشرية من قبل، سوى لغة الشعر. منذ 68 ساعة، أو نحو ثلاثة أيام، وهم ينتظرون هذه اللحظة. وكانت المكافأة تستحق الرحلة العجيبة. إنهم أول من يرى الأرض كوكباً منفرداً بنفسه. وراح بورمان يتخيل أنه يشهد ساعات الخلق الأولى عندما فَصَل تعالى بين اليابسة والمياه وأولج الليل بالنهار. وقيل فيما بعد إذا لم تكن «أبولُّو 8» قد أسهمت بالكثير في العلوم، فإنها أسهمت كثيراً في الأدب. وفي لحظة انتقل الصراع البارد بين الأميركيين والسوفيات إلى أعالي الفضاء. ففيما قرأ بورمان من التوراة مؤكداً إيمانه، كان يوري غاغارين السوفياتي، الذي أصبح أول رائد فضائي في العالم، قد قال عندما أصبح في مدار الأرض: «نظرت وتطلعت وفتَّشت، ولكنني لم أرَ الله». بعد سنوات قليلة قُتل غاغارين في حادث سير عادي.
هل كان غسان تويني يُدرك أن تغطية تلك الرحلة في حاجة إلى شاعر، وليس إلى صحافي، أو حتى إلى عالم من العلماء؟ إنني لا أشك في ذلك لحظة واحدة. فقد كان كل شيء عنده يتحول إلى صحافة. ومعظم العالم في ذلك الوقت لم يكن يعرف ما هو معنى الوصول إلى الفضاء، أو يستوعب ما هو «برنامج أبولُّو». لكنه كان رؤيوياً في كل شيء. وكان يعتبر أن لأي شيء قيمته الكبرى مهما كان صغيراً، وربما بسبب ذلك، أنشأ إحدى أحدث الصحف في الشرق، وبسببه أيضاً حوَّل الشاعر البوهيمي إلى رئيس للتحرير.