سمير عطا الله يكتب:

خطأ النقل لا الأصل

نشأ النظام العربي المتهالك اليوم بُعَيد الحرب العالمية الثانية، عندما كنا لا نزال في حالةٍ من الفقر والتخلّف والأمية، ولذلك كان متوقعاً، وربما طبيعياً، أن ينقل الناشئون عن الأنظمة التي أمامهم: فريقٌ اعتقد أن الخلاص من الفقر هو في الاشتراكية السوفياتية، وفريق آخر اعتقد أن النظام تؤمّنه القومية الاشتراكية، كما في التجربة النازية.

وفي الحالتين، كانت الرؤية واحدة، رغم العداء ما بينهما: الحزب الواحد يؤدي إلى الرجل الواحد، ويهتف باسمه وحده. وتتوزع الدولة إلى مجموعة مؤسسات تصبُّ كلها في خدمة القائد، وهو اللقب الذي أطلقه الشيوعيون والنازيون والفاشيون على زعيمهم. ولم يكن الألمان يرفعون التحية لبلادهم، بل للفهرر: هايل هتلر! وفي الاتحاد السوفياتي، لم يكن الولاء للدولة، وإنما لأفكار لينين وقرارات ستالين. واتخذت عبادة الشخصية أسلوباً ونكهةً عربية. وفقدنا منطق اللغة التي ورثناها، لكي نستبدل بها مجموعة تعابير ومصطلحات لا علاقة لها إطلاقاً بالفكر أو بالمجتمع العربي. ونُسيت هموم التنمية والتطور والتعليم، وحلّ محلها جميعاً هم المحافظة على القائد.

وكان على القائد أن يشغل جمهوره كل يوم بشيء جديد، وأن يؤكد كل ساعةٍ حضوره بين الناس، إما بالخوف أو بالاسترضاء أو بإشغالهم في قضايا لا طائل منها.

الهند أيضاً كانت من العالم الثالث، ونهرو كان زعيماً اشتراكياً مؤيداً لليسار ومتحمساً له. تقول ابنته أنديرا غاندي، في مذكراتها، إنه عندما قام بزيارة الولايات المتحدة أيام جون كيندي، ظل صامتاً طوال اللقاء مع الرئيس الأميركي، لا يجيب إلا عن الأسئلة الضرورية، ولم يكن يبتسم إلا عندما توجه الحديث إليه جاكلين كيندي.

ورغم كل ذلك العداء للرأسمالية، وكل الفقر الذي كانت الهند تعيش فيه، اختار نهرو نظاماً يكون الأكثر أهمية للهند وأهلها. ظل حزبه حاكماً، لكن لبقية الأحزاب الأخرى جميع حقوقها. وظل يجاهد ضد منافسيه، لكنه لم يرسل أحداً منهم إلى سيبيريا أو إلى الموت الجماعي، وخصوصاً لم يُطلق على نفسه لقب القائد، باعتبار أن الناس مجرد قطيعٍ يسير خلفه.

لم يحظَ النظام العربي لا بالتجربة السياسية الهندية المذهلة ولا بالتجربة الاقتصادية الصينية الأكثر إذهالاً؛ حظي فقط بالمقالات المؤلفة كلها من بضعة تعابير تتكرر كل يوم وكل زمن. وإذ يمضي علماء السياسة في درس أسباب الفشل الذي لحق بالفاشية والنازية والشيوعية على مستوى واحد، قد يفيدهم أن يدرسوا أيضاً أسباب ومكونات الفشل الذي مُنِي به النظام العربي؛ مثله مثل الأنظمة المذكورة لم ينجح إلا في التدمير.