فاروق يوسف يكتب:

ما حكاية المندسين في سوريا والعراق؟

في آذار/مارس من عام 2011 فيما كنت أتجول في السوق الحرة بمطار دمشق تناهى إلى سمعي حوار بين امرأة ورجل هما من العاملين في السوق. كانت المرأة تخبر الرجل بيقين كامل عن أن أحد اقربائها قد كشف لها عن وجود مندسين بين المحتجين السلميين. أولئك المندسون هم الذين كانوا ينادون بإسقاط النظام. لم يكتف الرجل بهز رأسه موافقا بل قال بحماسة مبالغ فيها "هناك مَن يؤكد أن أولئك المندسين ينتمون إلى جماعات إرهابية تسللت إلى البلد من الخارج".

تذكرت تلك الحادثة أنا أقرا خبرا يتعلق بنتائج التحقيق في الاحداث المأساوية التي شهدتها البصرة نتيجة تدخل القوات الأمنية والميليشيات لقمع المحتجين السلميين، تلك الاحداث التي أدت إلى سقوط عدد من القتلى ومئات الجرحى. لقد خلص تقرير اللجنة المشكلة من قبل رئيس الحكومة لإجراء ذلك التحقيق إلى أن هناك مندسين هم المسؤولون عن تلك الاحداث.

في الحالة السورية وجد النظام في حماية التظاهرات السلمية من المندسين سببا للجوئه الى القمع في مواجهة الاحتجاجات وفي الحالة العراقية اعفت الحكومة بأحزابها وأجهزة أمنها وميليشياتها نفسها من مسؤولية القتل. في الحالتين كان المحتجون أبرياء مثلما هي الحكومة، غير أن اللوم كله يقع على المندسين.

لكن من أين هبط المندسون على دمشق والبصرة؟

أتذكر أن الشام شهدت حملة اعتقالات كبرى قبل أن ينتقل الحراك السلمي إلى بقاع سورية أخرى. كما أن البصرة وبعد أن خف الاحتجاج فيها بعد أن أشفى المحتجون غليلهم حين حرقوا القنصلية الإيرانية شهدت هي الأخرى حملة اعتقالات شبيهة. فهل كان الغرض من الحملتين اعتقال المندسين؟

لم تعرض الحكومة السورية على الجمهور مندسا واحدا وهو بالضبط ما فعلته الحكومة العراقية بعد سبع سنوات متأثرة بحليفتها.       

المندسون كانوا أشباحا. أما زبائن المعتقلات فهم رفاق القتلى. الشباب الذين كان من الممكن أن يُقتلوا ليكونوا ضحايا لمندسين آخرين. الأمر الذي يعني أن كل إنسان خرج محتجا يمكن اعتباره مندسا. لا لشيء إلا من أجل أن يبدو كل شيء نظيفا. فالعلاقة بين حملة السلاح الرسمي والقتلى السلميين كانت جيدة لولا دخول أطراف غريبة على الخط، الأمر الذي أدى إلى وقوع قتلى بين الطرفين. فمثلما قتل المندسون عددا من المحتجين فإنهم قتلوا أيضا عددا من أفراد الجيش والأجهزة الأمنية. وهكذا سنكون متساوين.

"كانت الحكومة حريصة على حياة المحتجين المطالبين بزوالها!" كيف يستقيم ذلك الحكم في بلدين مثل العراق وسوريا؟ أعتقد أن من يرغب في أن نصدق ذلك الهراء اما ن يكون معتوها أو انتهازيا من طراز صفيق.

فما من جريمة يستحق صاحبها القتل مثل المناداة بإسقاط النظام في كلا البلدين. وهو عرف يقره جزء من المجتمع. ذلك الجزء المنتفع من استمرار الأوضاع على ما هي عليه من غياب للعدالة الاجتماعية ومن تهميش وافقار وتجهيل وعزل وابعاد لفئات عديدة من المجتمع.

لقد تم تمرير حكاية المندسين في الشام إلى أن امتلأت المدن السورية بقطاع الطرق وشذاذ الآفاق القادمين من مختلف أنحاء العالم. اما البصرة فإن المندسين الحقيقيين فيها هم الإيرانيون الذين يديرون مدينة النفط كما لو أنها تابعة لسلطة الولي الفقيه.

ولكن ما معنى أن يكون المرء مندسا؟

ذلك مصطلح تم اختراعه في سوريا والعراق على عجل. لم يكن الغرض منه سوى إضفاء نوع من العلاقة الصافية بين الشعب والحكومة، وهو امر ليس حقيقيا، بل هو الكذب بأبشع صوره.

فالعلاقة بين الطرفين كانت سيئة دائما.

لو كانت حكومتا البلدين صريحتين في قول ما تفكران فيه لاعترفتا بأن الشعبين اللذين تصرفان شؤونهما هما من أسوأ الشعوب. وهو اعتراف يمكن أن يحرجهما. ذلك لأنهما لا تستطيعان تغيير شعبيهما. الممكن الوحيد هو أن يغير الشعب حكومته.

لذلك فإن حكاية المندسين تبدو مريحة لما تنطوي عليه من نسيان لتلك العلاقة المضطربة. وقد تلجأ حكومتا البلدين إلى منح أشباح المندسين أوراقا ثبوتية من أجل أن يتمتع شبح المندس بحقوق المواطنة أسوة بأخوته المواطنين المندسين.