د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

عدن خلف الستار الحديدي..مناجاة  5-5

"رسالة شهيد إلى عدن الحبيبة"
لم تكن الغربة خياري عندما هاجرت مجبراً ذات ليلة سوداء مظلمة شديدة البرودة وأنا أتلمس طريقي في جنح الظلام بسبب الانتفاضات وأعمال البطش والانتقام والمسيرات التي كانت تجوب شوارع عدن الجميلة ومعظم مدن الجنوب من الحاقدين والدهماء من أتباع النظام الماركسي في السبعينيات من القرن الماضي !!
سرت حافي القدمين بعد أن تمزق حذائي.. ثم أخفاني سائق شاحنة كبيرة تحت أكوام حزم القصب حتى عبرت الحدود إلى اليمن!!
كنت يافعا لا يقوى على فراقك يا عدن ..وتنقلت حتى وصلت مكة المكرمة.. وكانت خياري وقبلتي وألقيت فيها رحالي وبدأت اشق فيها طريقي .
ورغم رحيل الجسد الغض الصغير وابتعاده عنك فقد بقيت الروح معلقه في عناقيد الفل والياسمين وتتسلل مع غروب شمسك وتذوب في صفائح الكادي ورائحة البخور الذي تتضوع في أزقتك وشوارعك كل مساء يا عدن!!
خرجت والخوف يسكن وجداني عندما بدأت الثعابين والعناكب تخرج من أوكارها تلدغ كل جمالياتك وتنشر الموت في ربوعك في السبعينيات .. خرجت منك وفارقتك مكرها ، وظننت أنني سألتصق بالغربة في المكان الجديد وشربت العلقم بعيدا عنك وسط أحلامي المجهضة التي مهما ادعيت انصهاري في بلاد الغربة إلا أن الجسد والروح كانا ملكاً لك ولثراك وحدك !!
..وفي كل مساء تتسلل الذكريات إلى شراييني ويطل الحنين إليك من أوردة القلب المكلوم بفراقك وتتسلقين ذاكرتي كطفلة تعبث بأوراقي وتسافر في دمي ورغم السنين والفراق عنك إلا إنني أتلمس في ذاكرتي شرفاتك وأتنفس هواك ويتسلل ضؤ مصابيحك إلى حدقات عيوني .. ويتصفح الضؤ وجهي كل ما أشرقت شمسك أو غابت عليك..!!
احن إلى ملامحك وبناياتك وتضاريس جبل شمسان وصخور العقبة في شارع أروى ومكتبة الجيل الجديد والصهاريج وأمواج البحر التي تتكسر على شواطئك في ساحل أبين وجولد مور ..!! ويرحل الضوء معي ويطل من نوافذ بيوتك الجميلة في خور مكسر ويتسلل إلى عيوني وخلايا ذاكرتي ويواسيني في وحدتي !!
وتتساقط الدموع على وجهي وتلسعني حرارتها حتى ترتعش أهدابي كلما تذكرتك .!!
. لم أدمن مدينة يوما مثل ما أدمنتك ، وأنا أتنقل في مدن الشرق والغرب وأعبر المطارات وبقيت وحدك تسكنين وجداني وتحلقين معي كحمامة بيضاء استحضر معها روائح أزقتك وطعامك المميز ورائحة البخور وفناجين الشاي العدني تتسلل رائحتها إلى انفي ..وطعمها إلى فمي ..رغم المسافات التي اختزلها شوقي إليك !!
يا عدن يا مدينة الأحلام.. ستظلين مسقط قلبي وخلايا وجداني والقي وضيائي وعندما تكالب عليك الطغاة والبغاة والغزاة إبان العهد الماركسي ..وما أعقبها من غزوات متلاحقة واجتياحات مدمرة عفاشية – حوثية في أعوام 1994م - 2015م عندما انحدر الغزاة من الكهوف والجبال من شمال الشمال ..ضاقت بنا الدنيا في الغربة عندما سمعنا أن الغزاة يدكون عدن بالمدافع وأهلها يموتون تحت الأنقاض.. ونادى فينا المنادي أن حي على الكفاح والدفاع عنها !!
هب شباب الجنوب كالأسود ورحلوا إلى عدن
ورحلت معهم تسبقني أشواقي إليك وعدنا إلى حضن الوطن تركنا الغربة والأهل والولد ..وهجرنا الحياة ..وحملنا السلاح للدفاع عنك.. قاتلنا من أجلك وسقط الكثير منا على ثراك وطرقاتك منهم من بترت أطرافه ومنهم من رزق الشهادة!!
حاول تتار العصر محو معالمك التاريخية بنيران دباباتهم وصواريخهم وصبوا جام غضبهم وحقدهم الدفين على سكانك وأسواقك وبناياتك وهندستك المعمارية التي تجسد روائع الحضارات!!!
أراد تجار الموت و القتل والمساومات والاغتصاب احتلالك وتشويه جمالك الأخاذ عبر السنين وإذلالك وتدميرك قصفوا الحجر والبشر والشجر وأرادوا أن يسلبوا منك الحياة ويدفنوا أحلامك يا سيدة المدن !!!
ولكن هيهات فقد قاومناهم وأجهدناهم ومن أجلك رخصت الأرواح وسالت الدماء وتعفرت الوجوه بثراك الطاهر وأصبت إصابة قاتلة ومعي صديقي ورفيق دربي " عمر "الذي وسدته رجلي حتى فاضت روحه ثم لحقت به !!
وكان آخر مشهد أراه في حياتي هو جبل شمسان الأشم يقف منتصبا وسكنت روحي لرؤيته وتحجرت عيناي وهما تنظران إليه وأكرمني الله بالشهادة ومت على ثراك الطاهر وفاضت روحي وأيقنت أن نصرك آت عما قريب.
الخاتمة:

ليس الغرض من سلسلة المقالات هذه استحضار الماضي التعيس لما حدث في الجنوب منذ الاستقلال حتى اليوم .. وليس حملة دعائية لنبش الماضي الأليم أو التحريض وإثارة الفتن والأحقاد والثارات من جديد وما نقصده ليس بكائيات على جدران الوطن وعلى أرواح من استشهدوا من أبنائه فهم في رحاب الله .. بل هو سرد لوجع السنين وأحداث تاريخية واقعية حدثت في السنوات العجاف والليالي السود من حكم الرفاق .
الهدف من كل ذلك هو استخلاص العبر والعضات من كل ما مر ببلادنا من تجارب مريرة ومآسي مزلزلة أدخل فيه الرفاق شعبنا هذا النفق الضيق المظلم ولازال يعاني للخروج من سراديبه وما جلبت عليه مراهقا تهم الفكرية من حروب وموجات غزو واحتلال منذ العام 1994م و2015م وحتى اليوم!!
إن اقل ما يطلبه شعب الجنوب من الحزب الاشتراكي اليمني عراب المآسي والنكبات هو الآتي :
- الاعتذار لشعب الجنوب عن كل الأخطاء والممارسات القمعية التي مارسها الحزب ضده خلال فترة حكمه البائس .
- الاعتذار لشعب الجنوب عندما ذهبت شرذمه منهم ووقعت مع " اليمن " وحدة اندماجية دون تفويض أو تصويت شعبي أو استفتاء وكان حصادها مرا ومكلفا لازال شعب الجنوب يدفع أثمانا باهظة لمغامراتهم من دماء أبنائه وثرواته وسيادته واستقلاله .
- الاعتذار لشعب الجنوب عندما زيفوا تاريخه والغوا هويته وادخلوه قسرا في وحدة اندماجية غير متكافئة .. وعليهم الاعتراف بخصوصيته وحدوده التاريخية والجغرافية .. وان العلاقة التي تربطنا مع اليمن هي علاقة جوار ووشائج قربى ومصالح مشتركة ..وليست تبعية أو فرع يعود للأصل أو سادة ورعية كما يدعي أصحاب الهضبة ..أو كما ورد من زيف وأكاذيب في أدبيات الحزب الاشتراكي وما قام به من قفز على عوامل التاريخ والجغرافيا وتحويلها إلى ضم وإلحاق وطمس الهوية الجنوبية ...
- اعتذار الحزب الاشتراكي على ما قام به من أعمال عدائية وإجرامية وتصفيات جسدية ضد الأحزاب والشخصيات الوطنية الجنوبية والرموز القبلية والدينية والشعبية وأعمال التأميم لممتلكات المواطنين وإعادة الاعتبار لهم بما في ذلك أهالي الضحايا من الحزب الاشتراكي نفسه خلال صراعاتهم المريرة ضد بعضهم البعض .
- التزام الحزب الاشتراكي باستبعاد كل الشخصيات والعناصر الإجرامية من قياداته وكوادره الذين تلطخت أياديهم بدماء شعب الجنوب مع اعتزالهم الحياة السياسية نهائيا وترشيح كوادر شابة بدلا من تلك القيادات السابقة الهرمة صاحبة الماضي الأسود واعتبارهم مجرد مواطنين عاديين ولأولياء الدم الحق في ملاحقتهم ومقاضاتهم أو العفو عنهم !!
واجبنا :
- نرى أن المصلحة الوطنية تتطلب منا جميعا معالجة جراحات الماضي الأليم وتعزيز ثقافة التسامح والتصالح فيما بيننا وطي صفحة الماضي المثخنة بالجراحات الأليمة لإنقاذ الجنوب وشعبه من أعدائه والمؤامرات التي تتربص به من كل حدب وصوب .

- وأخيرا وليس آخرا على الحزب الاشتراكي أن يعترف وينزل من عليائه وأوهامه .. ويقر انه مجرد فصيل أو حزب شأنه شأن باقي الأحزاب الجنوبية الأخرى وعليه أن يتخلى عن مكابرته وشطحاته الثورية وأدبياته الزائفة....والكف عن ادعائه الوصاية على الجنوب وشعبه وانه وحده من حرره من الاستعمار بمفرده ..والتخلي عن إصراره على اختزال نضال شعب الجنوب في "ثورة 14 أكتوبر"... متجاهلا المعارك الوطنية التي خاضها شعب الجنوب بمختلف أحزابه وهيئاته و شرائحه القبلية والاجتماعية منذ أن وطأ المستعمرون الانجليز ترابه الوطني عام 1839 م .

- الرحمة لشهداء الجنوب الذين قضوا دفاعا عن حريته وكرامته وعطروا ثراه بدمائهم الزكية في كل معاركه التاريخية .

- الشفاء للجرحى خلال الحروب السابقة واللاحقة .

- الحرية والكرامة لشعب الجنوب الذي لا زال يناضل و يدافع عن كرامته وهويته واستقلاله .

- الموت والخزي والهزيمة لكل أعداء شعب الجنوب الأبي .
د. علوي عمر بن فريد