محمد قواص يكتب:

أسوأ من جريمة، إنه خطأ

لا شيء يبرر أن تُقترف جريمة بحق صحافي سلاحه الكلمة. تعترف السعودية بالخطيئة وتقول إنها تسلط ترسانة قضائية لمتابعة التحقيقات واعتقال الجناة ومعاقبة المذنبين. غير أن ذلك لا يكفي. قتل جمال خاشقجي لم يكن جريمة تقليدية لطالما طالت وجوه صحافية في هذا البلد أو ذاك، أدانتها هذه المنظمة الحقوقية أو تلك، بل أن في ظروفها وفرادة تفاصيلها ومكان ارتكابها وهوية منفذيها، ما يُسّيل حبراً كثيراً، ويطرح أسئلة، ويوقظ شياطين في عواصم العالم أجمع.

أن يتحول "النقاش" إلى "تشابك بالأيدي" يؤدي إلى "وفاة"، رواية لا يمكن مقارنتها بما ضّخته "المصادر" التركية من تسريبات أغرقت الفضاء العام بما بات حقائق تتبناها دون أي تشكيك، للمفارقة، كبرى الصحف الدولية.

وعلى هذا فإن ضعف الرواية الرسمية، حتى لو كانت تمثل حقيقة من الحقائق المتدفقة، يعود إلى قوة المعطيات التي تُسرّب وسهولة تصديقها وسلاسة تقنيات عرضها. يكفي أن يقال أن "المخفي أعظم"، وأن تُبث فيديوهات مبتورة توحي أن إخفاء نسخها كاملة أمرٌ مقصود ويكشف فضيحة، لتصبح صورة الجريمة في مخيّلة العامة تلتقي مع أصحاب الروايات في خلاصاتها في ما تتحراه من نهايات.

للدبلوماسي الفرنسي الشهير شارل موريس دي تيليران مقولة شهيرة: "الأمر أسوأ من جريمة، إنه خطأ". قدم الخطأ في اسطنبول هدية ثمينة لمن يشتهي تصفية حسابات عتيقة جديدة مع السعودية.

تقود الرياض في السنوات الأخيرة انقلابا حقيقيا ضد قواعد قديمة داخل المملكة، كما في العالم الإسلامي برمته، لطالما استكانت لها المنطقة، كما علاقات العالم مع هذه المنطقة. انتظمت السعودية في السابق داخل منظومة دولية عظّمت من شأن التيارات الإسلامية في مواجهة تيارات اليسار والشيوعية التي كانت تنفخُ بها موسكو أيام الاتحاد السوفياتي. جرى أن الرياض ذهبت بعد اندثار الحرب الباردة إلى التخلص من عباءات ذلك الزمن، متصدية في ذلك لإرهاب "القاعدة" و"داعش" وأخواتهما، مُطلقة حملات جريئة لمواجهة التطرف والترويج لـ "المناصحة".

دفع السعوديون ثمن "الصحوة" غالياً من دمهم، لكن أيضا من صيتهم. باتت سمعة البلاد مرتبطة بالتطرف والتشدد و"سعوديي 11 سبتمبر" وآفة الإرهاب التي تفتك بالعائلات السعودية في أبنائها. قاومت الرياض أمر ذلك بشقّ النفس والوجع، بحيث باتت الصحافة والأدب وما تعرضه الشاشات من مسلسلات درامية منخرطاً في ورشة اجتثاث التطرف من قلب المجتمع وبنيانه. غير أن لتلك الحكاية مقلبا آخر.

تغيّرت السعودية في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده. قيل إن التحولات التي يريدها الحكم الجديد سريعة الوتائر على نحو قد لا تحتمله قماشة المجتمع السعودي. اعترف الأمير محمد بن سلمان أنه مسرّع في دفع الأمور باتجاه التغيير لأن بلاده تحتاج إلى الالتحاق بركاب العصر. قال إنه يسعى لإخراج بلاده من عصر "الصحوة" والانتقال بها إلى حداثة تحاكي شروط العصر. ذهبت الرياض بعيدا في دفع الانفتاح الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وذهبت الرياض أبعد من ذلك حين مضت وحلفاؤها في مقاطعة قطر من ضمن استراتيجية أشمل لمكافحة الإسلام السياسي.

تغيرت السعودية. جمال خاشقجي نفسه أخافه هذا التغيير. تبدلت قواعد اللعبة. كان خاشقجي يجيد التعامل مع ثوابت المملكة فيتجرأ عليها على صفحات صحف المملكة. بدا منطق الراحل منسجماً مع بيئة حاضنة للإسلام السياسي ما زال ينهل قوته من رعاية عواصم في المنطقة لا ترتاح إلى طبائع الرياض الجديدة وطبيعة ما ستُحدثه تحولاتها في كل المنطقة.

"الأمر أسوأ من جريمة، أنه خطأ". شنّ سعوديون حرباً على الولايات المتحدة في "11 سبتمبر” الشهير. كان من شأن ذلك أن يبرر حرباً أميركية ضد السعودية، لكن ذلك لم يحدث، وكانت في أمكنة أخرى ضد أهداف أخرى. شنّ السعودي أسامة بن لندن حربه ضد واشنطن ومصالحها في العالم وبات العدو رقم واحد لمؤسساتها العسكرية والأمنية. كانت الرياض شريكة مع الأميركيين والغربيين في الحرب ضد الإرهاب على الرغم من أدبيات ومواقف غربية لطالما اتهمت السعودية و"وهابيتها" بأنهما مصدر التطرف والتشدد ومنبع الإرهاب. وعلى الرغم مما واكب قانون جاستا من جدل حول مسؤولية الدولة السعودية عن جريمة "11 سبتمبر"، لكن ذلك لم يرقَ، كما هو حاصل هذه الأيام، إلى المطالبة برأس الدولة.

والخطأ يكمن في معادلة بسيطة. فحين تتموضع السعودية داخل خيار يروم نقل المملكة من طور الصحوة والطفرة والماضوية إلى طور الاعتدال والانفتاح واقتصاد المستقبل، فتلك ورشة هائلة لا يمكن السماح بارباكها بعملية "إقناع" معارض بالعودة إلى بلاده. في ذلك خطأ بدا أن خصوم الرياض ينتظرونه بتلهف، فأتاهم مجاناً يقصفون من خلاله هذا "الجديد" الذي يطل من الرياض سعيا لاسترجاع "قديم" يأنسون له.

في لعبة المصالح والأمر الواقع توقفت كافة العواصم "الغاضبة" من جريمة اسطنبول هذه الأيام عن المطالبة في الأشهر الأخيرة برحيل بشار الأسد عن نظام دمشق.

قَتَل رجلُ أمن تابع للدولة التركية السفير الروسي في اسطنبول في ديسمبر 2016. لم يكن الأمر فردياً. كان بإمكان موسكو اتهام رأس الدولة. أنقرة نفسها اعترفت أنه ليس فردياً وأن وراءه ذلك "الكيان الموازي" الذي يوالي فتح الله غولن. ارتضت موسكو رواية أنقرة.

قَتَلت المخابرات الروسية العميل الروسي الكسندر ليتفينينكو عام 2006 وحاولت اغتيال الآخر سيرجي سكريبال هذا العام، وما بين الحدثين وقبلهما وُجد مواطنون روس "منتحرون" أو قتلى بشكل مشبوه في بريطانيا. اتهمت لندن وأجهزتها وصحافتها روسيا بالوقوف وراء ذلك. ذهبت الاتهامات باتجاه فلاديمير بوتين شخصيا، لكن لم تتجرأ العواصم على الغمز من قناة رحيله عن الحكم.

لا تبرر تلك الوقائع واقعة اسطنبول السوداء. لكن من لا يتجرأ في وقائع الأمس، يتجرأ بسهولة على السعودية في واقعة اليوم.

لا يكفي الحديث عن "مؤامرة" تحاك ضد المملكة. للدول والجماعات مصالحها وأسلحتها وأفخاخها، ومن المنطق أن تدبر المكائد للخصوم.

السؤال يجب أن يُطرح حول كيفية إدارة الأزمات وامتلاك الرشاقة في مواجهة التحديات والتسلّح بأدوات حديثة في الأمن والسياسة والإعلام تكون على مستوى تلك التحولات الهائلة التي تَعِدُ بها الرياض.

والسؤال يجب أن يُطرح حول نجاعة القوة الهائلة التي يفترض أن تمتلكها الرياض في العالم، والتي بدا أنه يتمّ تحديها بخبث سواء داخل الكونغرس الأميركي أو منابر أوروبا أو من خلال تسريبات "المصادر" في أنقرة.

والسؤال يطرح أيضاً حول تخبط أولويات تجعل من مصير دولة بحجم السعودية مرتهن لسوء منظومة استخبارات تَعِدُ التدابير الأخيرة بإعادة هيكلتها.

ستخرج السعودية من أزمتها. العالم يحتاج إلى الرياض ويواكب بتأمل وقلق وحيرة مسيرتها الجديدة. ستتقاذق العواصم المواقف والتصريحات، وسيتحرك مبعوثي الدبلوماسية والأمن لإيجاد مخارج للحكاية التي صارت ظاهرة عالمية طغت على كل الحكايات. غير أنه ليس من الحكمة أن لا نتعلم جميعاً من هذه التجربة في تثبيت مسلّمة رفض المساس بالصحافة ورجالها وبالمعارضة عموما وشخوصها، ذلك أن رحيل السعودي جمال خاشقجي جريمة تمثل انتكاسة كبرى للسعودية لا يمكن إغفالها.

هو تمرين صعب أن يتأمل المرء الحدث بأدوات العقل فقط دون أن يتسرّب غضب من بين الحروف. اعترفت الرياض بالجريمة، وتعمل على ملاحقة الفاعلين، وربما أكثر من ذلك، فما بالك إذا كان "الأمر أسوأ من جريمة، إنه خطأ".