سمير اليوسفي يكتب:
فقدناه زعيماً !
(علي عبدالله صالح)، كرّس حياته لبلده وشعبه، وهذا هو الأهم. وقد كانت له في ذلك طريقة خاصة، يتفق -أو يختلف- حولها الكثيرون.
وإذا كانت الوحدة اليمنية أهم إنجازاته، إلى جانب قيادة الحزب الاشتراكي، فإن ثقته المُفرطة بإمكانية ترويض توحّش الحوثيين كان خطأه الكبير.. وقد دفع حياته ثمناً لتصحيحه عن رضا وقناعة وثبات لا نظير له في زمننا المحكوم بالرويبضات..
كان صالح كمن نقرأ ونسمع عنهم من الزعماء الكبار: يخطئُ ويصيب.. لكنَّ صوابه كان أكثر من خطئه بكثير.
يغضب وينفعل ويثور.. بسبب إساءة، أو وشاية.. لكنّه سرعان ما يهدأ ويصفح ويسامح، ويعود كأنّه وليٌّ حميم.
كما أنّه قد يثأر لنفسه، لكنه لا يقطع حبال الوصل، ولا يحقد ولا يجحد.
وحتى مع أعدائه، ظل يبعث لهم الرسائل الممزوجة بالترغيب والترهيب، والوعد والوعيد.. ويطرح الحلول دون إفراط وتفريط.. ويطلب منهم التنازل واللقاء في منتصف الطريق على حل وسط ومُرضٍ لجميع الأطراف.
ولهذا فإنّ انتفاضته العام الماضي، كانت متوقعة بالنسبة لي ولكل من يعرفون عن قُربٍ مقته الشديد للفكر السلالي العنصري، الذي ساد دولة الإمامة لأكثر من ألف عام.
أمّا تسليم صعدة للحوثيين فقد تمّ بدعمٍ من معارضيه، الذين عقروا الدولة في مارس 2011، وظنّوها ناقة صالح.. وأُحيل القرّاء إلى مقابلة الشيخ حميد الأحمر في قناة السعيدة في نفس العام، حيث بارك استيلاء الحوثيين عليها، وسيطرتهم على معسكرات تابعة للجيش، وكان مما قاله: (صعدة عادت للوطن، وعاد لها الأمن والأمان، بعد سقوطها بيد الحوثيين).. ولا نحتاج بعد كلام (حميد) لمزيد من الإثباتات.
بمجرد أن سلّم صالح السلطة لنائبه في انتخابات بلا منافس، اعتذرت الدولة للحوثة عن الحروب الست التي خاضها الجيش لقمع تمردهم.. واستحدثوا (الهيكلة)، التي غيّرت اسم (الحرس الجمهوري) إلى (قوات الاحتياط)؛ لأن أمزجة الحوثيين لا تطيق كل ما هو جمهوري.. كما تم قطع كل الحوافز والمزايا التي كانوا يتسلمونها، في رسالة فُهمت بأنّه لم يعد مرغوباً فيهم من الثوار الذين جلبوا الحوثي من كهفه إلى كرسي الرئاسة، وصار كثير من منتسبي الحرس يعملون سائقي تاكسيّات لتوفير العيش الكريم لذويهم!!
هذه الإساءات مجتمعة للجيش الوطني خدمت الحوثيين.. كما خَدَم تسريح الجيش العراقي -بعد القضاء على نظام صدام- الموالين لإيران، وسهّل عليهم حكم العراق والسيطرة عليه بدون جهد ومال وحرب..
لقد تمدّد الحوثيون من صعدة إلى عمران إلى صنعاء، حتى وصلوا تعز وعدن والحديدة.. بنظر ومباركة من استلموا السلطة. ومن خلفها معظم الأحزاب الفاعلة.. وكان من الطبيعي أن تصاب قوّات الحرس بانتكاسة؛ طالما تم التخلي عن العقيدة العسكرية التي تربوا وتدربوا عليها، وكانت رافضة لحكم الإمامة.
وبسبب الحاجة والإحباط، شارك بعضهم في زّفة استقبال الحوثيين؛ عملاً بالمثل المشهور: "إذا كان ربّ البيت بالدف ضارباً، فشيمة أهل البيت كلهم الرقص!".
أما الشهيد صالح، فقد كان آخر من تعامل مع الحوثي.. واكتفى بتوجيه بعض الموالين له والمقربين منه بعدم اعتراضهم.. واضطرّ للتعامل معهم مُكرهاً، بعد أن رفض التحالف مقترحاته التي سبق التوافق عليها مع الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز وكان مقتنعاً بها.. وجاءت انتفاضة ديسمبر العام الفائت؛ لتضع الزعيم صالح في موقعه الصحيح ومكانه اللائق.. ويكفي أسرته وحزبه وشعبه فخراً أنّه ضحّى بدمه وقدّم جسده قُرباناً وهو يدافع عن الجمهورية.. واستشهد بقذائف ورصاصات كهنة الإمامة المتمسحين بفُرس إيران.
وعلى ذكر حزبه، كتبتُ في يونيو الماضي مقالة بعنوان (رماد المؤتمر)، نصحتُ فيها المتبقين من قياداته بالتوحد على (خطاب) انتفاضة الزعيم صالح وكلماته الأخيرة.. واعتبارها وثيقة وطنية جامعة إن أرادوا لحزبهم القوة والديمومة..
وأضيف هنا، أنّ المؤتمر هو أداة صالح السياسية، نفخَ فيه من روحه، وأسسه على مزاجه وطبعه بشخصيته الكارِزمية، وصنع به -ومن خلاله- قيادات لم تكن شيئاً مذكوراً.. وبغير خطابه سينقسم المؤتمر إلى أشلاء وسيتوزعه الخصوم.
ويكفي للتدليل على ذلك، أن القيادات المؤتمرية -التي أصابها الغرور، وظنت أنّها قادرة على شقّه أو استخدامه أثناء حياة الزعيم- فشلت خلال السنوات السبع الماضية، وعادت كما كانت قبل أن يتولاها صالح بدعمه ورعايته: ضعيفة وباهتة وغير مؤثرة.. وبقي صالح صانع المؤتمر يحركه في السلم والحرب.. كيفما يشاء.
صالح لم يكن جباناً ولا رعديداً.. ولم يكن يخشى الموت أو ينزعج منه.. قدْر خوفه من الخاتمة السيئة.. مثل أن يموت في لحظة ذُل أو ضعف أو مهانة.. وأُستشهد في ذروة سموّه وشجاعته، وهو مُتحفز للقتال.
حينما تآمروا على قتله وهو يصلي الجمعة قبل سبع سنوات ونصف، ولم يتبقّ سليماً منه غير قلبه ولسانه، بعد أن استحال جسده إلى كتلة من لهب.. كان أول ما فعله عندما فاق من غيبوبته، تحذير أسرته وأركان دولته من الانتقام وإطلاق النار.. مهما كانت الأسباب.
من أي شيء خُلق هذا الرجل؟ وما الجدوى من حكمته في ذلك الوقت إذا مات مغدوراً دون انتقام؟
ولكن لا داعي للحيرة..
هذا هو صالح.. الزعيم، ولو بقيَ منه: قلبه ولسانه!
بعد أن ظلّ قُرابة العام يلملم أعضاء حزبه.. واستطاع بجهده الشخصي أن يحشد جمعاً غير مسبوق في ساحة السبعين وما حولها، في محاولة لإثناء الحوثيين عن مشروعهم السلالي التدميري، أدرك أنّ السِجال السياسي لم يعد مُجدياً، واستمراره متحالفاً معهم، سيؤدي به إلى أن يكون ظهيراً للمجرمين.. ووصل إلى يقين راسخ بضرورة المواجهة.
ومع أنّه كان يُدرك مسبقاً أنّ قراره بالقتال مجازفة قد لا يكتب لها النجاح بسبب الخذلان، ويفقد بسببها حياته.. إلاّ أنّه صار عنده أفضل الحلول وأكثرها شرفاً وكرامة.
لأنّ بقاءه حياً في ظل دولة الحوثي، أو في المنفى، لا يختلف عن الموت.. بل هو أقسى كثيراً من الموت.. وعار سيلحقه وَأسرته أبد الدهر..
فخاض حربه الأخيرة عن قناعة ووعي، حتى اُستشهد.. لأنه أراد بمقاتلة الحوثيين أن يقدم لأعدائه ومبغضيه، قبل أنصاره وأعضاء حزبه، درساً في التضحية والفداء.. مكتوباً بدمه؛ ليستلهموا منه العظة والعبرة التي تدفعهم لإنقاذ بلدهم من حكم الجبت والطاغوت..
طوبى له.. وسلامٌ عليه حتى يبعث حيّا!