شيماء رحومة تكتب:
حديث حافلة يعري مجتمعا
غالبا ما نتقصى قضايا المجتمع وأحواله داخل العالم الافتراضي بعد جولة بين مختلف منصاته أو بين صفحات الجرائد والمجلات مع القهوة الصباحية.
ونتقصد أحيانا كثيرة حمل صحيفة معنا خلال رحلتنا اليومية للعمل تصرفنا عن غوغاء وسائل النقل العمومية، لكن ماذا لو تركنا هواتفنا الذكية وصحفنا جانبا وعايشنا مشكلات المجتمع بشكل مباشر بدل البحث عنها بين طيات صفحات كتبت بتوجه مخصوص فكاتبها مهما حاول أن يكون حياديا سينحرف بقلمه قليلا أو كثيرا.
لم أركب وسيلة نقل عمومية منذ مدة ليس لأنني برجوازية بل لأن مقر عملي لا يتوافق وأي من وسائل النقل المتاحة كما أنه قريب نوعا ما من مسكني، لا يهم فما يعنينا هو ذاك اليوم الذي وطأت فيه قدمي الحافلة وهو قريب ليس ببعيد، فأعدت اكتشاف رهط من الناس صادفته في طريق حياتي اليومية بعد أن كنت ألمحه داخل استوديوهات برامج الواقع التلفزيونية ويذهب في ظني أنه مسلسل اجتماعي تجاري ربحي لأصحاب هذه البرامج.
غير أنني وجدت قصصا تختصر حياة الكثير من فئات المجتمع في رحلة لا تدوم أكثر من نصف ساعة أو أقل، وداخل حافلة تعج بالعديد من الأشخاص يفوقون طاقتها الاستيعابية الحقيقية، وهذا أمر مفروغ منه داخل أغلب مجتمعاتنا العربية!
صرفتني محدثتي عن بقية الوجوه المبعثرة داخل الحافلة بإصرارها على سرد تفاصيل حياتها الزوجية، في البداية انتابني الفضول لأنها بدت على الرغم من هندامها البسيط ومحاولاتها الفاشلة في وضع مساحيق على وجهها، صغيرة السن على أن تكون زوجة فما بالك إذا أصبحت أما لثلاثة صغار.
أنصت وأنا أبحث بين كلماتها عن سبب زواجها المبكر إلى أن جاءت على ذكر أنها كانت ترتدي ما يسمى باللباس الشرعي وأن زوجها العربيد السكير كان متدينا! حينها فقط بدأت أطوار القصة تتوضح أمامي، فللأسف إبان الثورة التي شهدتها البلاد التونسية يناير 2011 ظهرت فئات مستجدة بالمجتمع التونسي أسست لعقد قران بين ثنائيات الجامع بينها الدين! فكلما طال لباس الفتاة وكان فضفاضا كانت الزوجة المناسبة وكذلك الرجل صاحب القميص واللحية واللباس الأقرب إلى الإطلالة الأفغانية.
وصفي للـ”كوبل” المثالي ليس تهكما على الدين بل هو تهكم على بعض العقليات التي كان من السهل تطويعها وإعادة برمجتها وفق فترة محددة كانت البلاد فيها على شفير انقلاب وفوضى.
وحالة هذه الزوجة خير دليل على ضياع هذه الفئة التي أقل ما يقال عنها إنها حاولت تقليد مشية الحمامة فنسيت مشيتها، كما يفيد المثل السائر، حيث أخبرتني بأنها غيرت لباسها مكرهة لأن زوجها “المتدين” صار صاحب مزاج وكأس، قالت إنه يزعم أنه سلك هذا الطريق خوفا من رجال الأمن وأنها بلباسها تجلب له مشاكل أمنية هو في غنى عنها، لكن الواقع المرير أنه أصبح يقيم مقارنة بين زوجته وخليلته الجديدة.
انتبهت من غفلتي صائحة: عشيقة! ورحت ألعن مارك زوكيربرغ، لكنها نفت أن يكون موقع فيسبوك سببا في هذا الارتباط غير الشرعي، فذهب في ظني أن العشيقة من قليلات الحظ في العثور على زوج، وجاءت إجابتها أيضا بالنفي، موضحة أن زوجها الأب لثلاثة أبناء يقيم علاقة خارج إطار الزواج مع زوجة وأم لثلاثة أبناء أيضا.
وحين أبديت استغرابا اقتحمت عجوز كانت تقف غير بعيدة عنا حيّز الحوار، مدعمة الزوجة، إذ أنها على ما يبدو لم تكن تشاركنا الحافلة فحسب بل والحديث أيضا.
وقدمت المرأة المسنة براهين وحججا بعضها من قصص أجوارها والبعض الآخر مما علق بذهنها من البرامج التلفزيونية الاجتماعية، فهناك عدد من الرجال يبحثون عن علاقات جنسية لا تكلفهم الوقوف وراء القضبان بتهم الاغتصاب والتغرير، بل وجدوا في العلاقات الحميمية مع متزوجات ما يكفل لهم التستر على التتبعات القضائية، وفق قولهما.
وأكدت الزوجة أنها ستطلب الطلاق وتحاول أن تؤسس حياتها من جديد في ظل وجود ثلاثة أفواه جائعة بحاجة إليها، مشيرة إلى أن زوجها الذي يعيّرها بعدم اهتمامها بنفسها وهندامها لا يتكفل بمصاريف العائلة، بل هي المعيل الوحيد لهذه الأسرة الصغيرة.
الأم مبعثرة بين حاجة أبنائها إلى الإحاطة والرعاية وبين حاجتهم إلى السند المادي الذي يكفل لهم الالتحاق كأترابهم برياض الأطفال والحصول على مأكل وملبس لائقين.
وصلنا إلى وجهتنا وكل سلك طريقا، لكن مشوار الحياة أطول من حديث عابر داخل حافلة صغيرة تحمل مشاغل مجتمع بأسره.