مشاري الذايدي يكتب :
تونس بين حريقين
يوم 17 ديسمبر (كانون الأول) أحرق بائع الخضار، المتجول، على عربته، نفسه، في ميدان من ميادين مدينة سيدي بوزيد جنوب تونس، احتجاجاً على الحال وغضباً من السلطة، وكانت، كما قيل لنا، مأساة إحراق الشاب البوعزيزي، الذي قيل لنا أيضاً إن سبب انتحاره المباشر هو لطمة شرطية له، هي السبب في اندلاع «الثورة» ثورة الياسمين كما وصفت في تونس، والباقي معلوم.
قبل أيام أقدم الشاب التونسي، عبد الرزاق رزقي، يعمل مصوّراً في قناة تلفزيونية خاصة، على إحراق نفسه، في مدينة القصرين، وسط غرب تونس، احتجاجاً أيضا على ما احتج عليه من قبل، المسكين محمد البوعزيزي، نفسه. زملاء المصوّر الصحافي المتوفى أشاروا إلى أن رزقي كان يعاني من مشكلات اجتماعية مما أثر على حالته النّفسيّة وجعله يقدم على حرق نفسه.
السؤال لماذا لم يثر احتراق رزقي النتيجة نفسها التي أثارها احتراق البوعزيزي من قبل؟
قيل لنا إن ذلك كان سبب خلع النظام الحاكم في تونس، نظام بن علي، حينذاك، حيث غضب التوانسة من الحال التعيسة التي جعلت الشاب المسكين، المهان من لطمة الشرطية وإهانتها له (تبين لاحقاً زيف قصة الشرطية!)، يحرق نفسه، وترجموا هذا الغضب على شكل ثورة ودستور جديد وهرب الرئيس الحديدي زين العابدين بن علي. اليوم حركة النهضة التي باركت وشاركت بثورة التوانسة، جزء من السلطة، وكذلك بقية الثوار من كل التيارات، ومع ذلك لم يتغير شيء يجعل شاباً تونسياً يمتنع عن إحراق نفسه، وهو هذه المرة ربما أكثر وعياً وثقافة من بائع الخضار.
المراد قوله من كل هذا هو أن تفسير الانقلابات السياسية الكبرى، بسبب وحيد، ناهيك من أن يكون سبباً ساذجاً، تفسير منقوص وخادع. فلا يكفي أن يتحرك الشارع أو أن يحرق إنسان نفسه أمام الجميع، لتتغير الحال رأساً على عقب، فحالة تونس الاقتصادية والسياسية، لن يصلحها، فجأة، تدفق الناس للشارع وتمزيق الصور والهتاف بسقوط النظام... و«لقد هرمنا».
طريق التغيير يمرّ عبر مسار شاق، أمياله كثيرة، محطاته كثيرة، يحتاج لتعبئة كل الطاقات، ونعم، يحتاج إلى صبر على تغيير هوية الاقتصاد، وتحفيز الإنتاج، وجلب الاستثمار الخارجي، وتحقيق السكون العام، ومحاسبة الفاسدين و«محاصرة» الفساد بأقسى شكل ممكن... أما غير ذلك من الحلول «النارية» فهو شعلة متوهجة سرعان ما تموت بماء الحقيقة.
رحم الله البوعزيزي من قبل والرزقي الآن، غير أن صلاح الحال التونسي، موجود في مكان، ليس في عربة بائع الخضار ولا في كاميرا المصور اليائس.
هل يثير هذا كله السؤال، عن حقيقة ما جرى وتفسيره في تونس، إبّان الربيع العربي، على غير ما قيل لنا من قبل؟