رشيد الخيُّون يكتب:
الغناء العراقي.. في «شتاء طنطورة» وآثار العُلا
أحيا فنانون عراقيون معروفون أمسية تركت أثراً إيجابياً بين الشَّباب السّعودي، ساهم فيها الثلاثة: إلهام المدفعي، وكاظم السَّاهر، وسعدون جابر، والمناسبة عُرفت سعودياً بـ«شتاء طنطورة»، وفتح قناة «إم بي سي» الخاصة في العراق، وهي ثقافية وفنية، هدفها التقريب بين البلدين، بعد الجفوة التي بدأت(1990)، وتفاقمت طائفياً بعد(2003)، حتى دخلت الطائفية في الرِّياضة، وهذه المرة في الفن. فقد رُشق الفنانون الذين أقلتهم الطائرة إلى العُلا بسهام العمالة والخيانة!
غير أن الأمسية نجحت، والقناة ابتدأت، وكما فهمنا أنها وسيلة تواصل لا تقاطع، فليس لها بالسياسة المباشرة، وهي التفاتة مهمة، وإن كانت متأخرة، لانفتاح البلدان والشعوب المتجاورة على بعضها بعضاً، والعراق اجتماعياً لم يكن بعيداً عن نجد، فالقبائل متداخلة والتنافذ تشهده مناطق نجد والبصرة وسوق الشيوخ، حيث حياة النجادة هناك، والزبارة بنجد، وقد جمع تركي الدخيل هذا الواقع في مقال له تحت عنوان «بلادك نجد والسعودي عراقي»، أثر كثيراً في العراقيين، وكان العنوان مقتبساً مِن بيت الفقيه والشاعر محمد سعيد الحبوبي(ت1915) نزيل حائل والنَّجف: "بلادكُ نجدٍ والمُحب عراقي/فغير التَّمني لا يكون تلاقي" .
تزامن مع هذا التلاقي الفني، قرار حكومي مهم يخص آثار العُلا بفتحها للمستكشفين الآثاريين فما تحت أرضها قد يزيد على الظاهر منها، الآثار التي كانت مغيبة لزمن طويل، مع أنها لا تقل أهمية عن أبرز الآثار العالمية، فإذا كانت الأهرام بمصر، وأسد بابل والزقورات بالعراق، وغيرها مِن الآثار العالمية، فآثار العُلا، المعروفة بالحجر ومدائن صالح، في السعودية.
فقد اعتبرت هذه الآثار ومنطقتها بما عُبر عنه بـ «رؤية العُلا»، وهدفها «تطوير المحافظة الواقعة شمال السعودية، وتحويلها إلى وجهة عالمية للتراث مع الحفاظ على طبيعة وثقافة المنطقة بالتعاون مع المجتمع المحلي وفريق من الخبراء العالميين»(الشرق الأوسط). جاءت أهمية المنطقة التاريخية أن تكون تحت إشراف هيئة ملكية خاصة برئاسة ولي العهد.
قد تقولون وما أهمية ذلك؟! نقول: قبل سنوات كانت الآثار تعتبر أصناماً، ضمن فورة الصحوة الدينية في الثمانينيات وما قبلها، حتى أخذت الدولة تضطر إلى الاحتفاظ بالآثار بعيداً عن عيون الصحويين، وإذا تصبح الآثار اليوم ضمن رؤية(2030)، التي أعلنها ولي العهد السعودي، وهو القائل: «الكثير يربط تاريخ جزيرة العرب بتاريخ قصير جداً... فقط 1400 سنة مربوط بالتاريخ، لاشك أن التاريخ الإسلامي هو أهم مرتكز ومنطلق لنَّا، لكن عندنا عمقاً تاريخياً ضخماً جداً»(العربية 25/4/ 2016) .
زرت العُلا قبل سنوات عبر البر، وهي تبعد عن جدة بـ 700 كم، شاهدت في فندقها الوحيد «أرك» كراريس تُحرم زيارة الموقع، على أنه «أرض عذاب»، والمقصود ما ورد في سورة «الحجر». هكذا تفسر الآيات بعيداً عن أسباب نزولها، فرغم اندثار أهل ذلك الزمان، لحق عمرانهم العذاب، بينما المقصود ليس البناء، إنما البشر.
عادت آثار العُلا إلى الواجهة ضمن نهضة جديدة، تؤثر في المنطقة ككلٍّ، لتكون أحد أبرز معالم العالم التَّاريخية، ومَن يراها يجد نحت البيوت الأنيقة في الجبال، تعلوها رموز دينية فنية، فلا نستكثر على مَن نحت في تلك الصُّخور خزانات مياه ومعابد ومنازل ببراعة، ومع ما شكلته عوامل التَّعرية مِن تحف أسطورية، وطراز عمرانها يمتد شمالاً إلى تبوك والبتراء، من مخلفات الأنباط.
مُتحف مفتوح، تخترقه الرِّيح التي تشعرك بالوحشة مِن أُمم سادت ثم بادت، عمّرت المكان بمعول وإزميل، تحيا بين جبالها بساتين النِّخيل المتفرقة، ولقيمة الجمال والنُّوق في حياتها جاءت معجزة النَّبي المبعوث إليهم، صخرة مِن صخورها الصّلدة، يأتيها المخاض، فتلد «ناقة الله»، ومِن صخرة أخرى يخرج حوارها.
قيل إنها أرض ثمود، ومازال البحث قائماً في الكتابات المدونة التي تشكل مكتبة صخرية مكشوفة في الفضاء. فما يحصل مِن الاهتمام الجاد، اليوم، بالآثار والفنون ليس باليسير، ربَّما لم يشعر بأهميته مَن اعتاد على المتاحف ونوادي الموسيقى، ولكنها تُعتبر تحولاً كبيراً ببلاد كانت الآثار وآلات الموسيقى فيه تلوذ عن «المطاوعة»، والتسمية قديمة نقرأها في تاريخ الطبري.
كان المنقولون مِن العراق إلى «شتاء الطَّنطورة» بالعُلا فنانين وفنانات، وليس متأبطي شرور، مِن الذين مزجوا التدين بالسلاح، سبقهم إلى هذه البلاد صيت «حضيري أبو عزيز» وناظم الغزالي، فعلام هذا الهجوم ضدهم؟! فيا ليت الوفود كانت على شاكلتهم، لا خبراء إرهاب وتدريب ميليشيات، من مهامها قتل الفنانين أنفسهم.
هكذا جمع الفن العراقي بشتاء الطنطورة، وآثار العُلا، أراه عهدَ نهضةٍ جديداً يطلع بالمنطقة صاحبه اعتبار التنظيمات الدينية إرهابية، فلا تأخذنا الكراهية العقائدية إلى الدرك، بالاعتراض على كل مبادرة حتى لو كانت موسيقى وغناء وزيارة آثار نحتها الإنسان، وصممت الرِّيح قمم تلالها بأشكال عجيبة، من قبل أن يكون هناك سُنة وشيعة.
يبقى التعرف على اسم «الطنطورة»، قيل إنها آلة لمعرفة الزمن، على شكل هرم تعلو البيوت، كمزولة شمسية، اعتمدت قديماً لتحديد موسم الزراعة، وتعاقب الفصول، ومنها مربعانية الشتاء، حتى صار لها احتفال سنوي في موسم الزراعة، تحول إلى موسم فني.