د. عيدروس النقيب يكتب:
بين النزوح الإنساني والسياسي
عادت إلى الواجهة مرةً أخرى قضية النزوح من محافظات الشمال إلى عدن وبعض محافظات الجنوب، والتي تزامنت مع الحديث عن إصدار وثائق هوية مزورة لكثير من هؤلاء النازحين على إنهم من مواليد الجنوب، وقد تلقيت أكثر من حالة تبين أناساً يحملون هويتين وأكثر فيها مضامين وبيانات متناقضة أهمها مكانين مختلفين للميلاد، مثلاً واحدة فيها إنه من مواليد صنعاء والثانية من مكيراس، أو واحدة على أن صاحبها من مواليد ذمار والثانية من عدن، وقس على ذلك الكثير من الحالات المشابهة.
* * *
ما زلت أتذكر تلك المواجهة التي أجرتها قناة الجزيرة في منتصف التسعينات من القرن الماضي، أي بعد انتصار الغزو الأول للجنوب، بين الفقيد المناضل علي صالح عباد مقبل الذين كان حينها أمينا عاما للحزب الاشتراكي اليمني، والأستاذ محمد اليدومي نائب رئيس حزب الإصلاح حينها، والذي قال فيه الأستاذ اليدومي ما مضمونه "سنقوم بتوطين خمسة ملايين من المواطنين الشماليين في الجنوب وسيتزوجون وينجبون، وذلك لضمان بقاء الوحدة اليمنية وعدم تعرضها للخطر"، وكان واضحا أن المواطنين الجنوبيين هم الخطر على الوحدة اليمنية، وأن هذه الوحدة لا يحميها إلا المواطنون الشماليون، الذين سيتم توطينهم في الجنوب.
* * *
كنت منذ أشهر قد تناولت في منشور مشابه قضية التمييز بين النزوح الإنساني والنزوح السياسي، وقلت حينها إن أي نزوح لدوافع إنسانية ينبغي التعامل معه بمستوى عالي من المسؤولية الأخلاقية والقانونية فالنازح يستحق أن يكون محل ترحيب ورعاية وإعانة ما أمكن ذلك مع إن الكثير من الساسة غير الراضين على الجنوب يقولون أن عدن والجنوب يفتقد كل مقومات الأمان والاستقرار لكنهم يعودون عن هذا عندما يتعلق الأمر بالنزوح (المشكوك في بعده السياسي).
* * *
تحاشيت الحديث عن الأخ رئيس الوزراء د. معين عبد الملك بالسلب ولا بالإيجاب على أمل أنه قد يختلف عن زميله ورئيسه السابق د. أحمد بن دغر لكن ما صدر عنه في حديث متلفز يجري تداوله عبر شبكات التواصل الاجتماعي، يقول فيه أن من حق أي مواطن مضى على استقراره في محافظة معينة ثلاث سنوات أن يغدو مواطنا في هذه المحافظة وأن يترشح فيها لأي انتخابات قادمة، هذا الحديث يعيدنا إلى نظرية الأستاذ اليدومي عن التهجير والتوطين والتزاوج، ويؤكد انه هذه النظرية ما تزال هي المعمول بها رغم كل البلاوي والكوارث التي بلغتها البلاد بفضل ذلك النوع من التفكير الاستعلائي التعسفي وشطحاته السياسية التي تزدري كل مشاعر الرافضين لسياسات الوصاية والإلحاق والتبعية.
حديث رئيس الوزراء ينم عن أحد أمرين:
فإما أن الرجل لا يفقه شيئا عن تعقيدات المشهد السياسي في الجنوب، ولا يعلم عن وجود قضية جنوبية فعلية وحية أوصل تجاهلها والقفز فوقها، مواطني الجنوب إلى اليأس من إمكانية الاستمرار بأي ارتباط مع أشقائهم الشماليين حتى صار مطلب تقرير مصير الجنوب واستعادة دولته واسترجاع حقه السيادي في اتخاذ قراره المتعلق ببناء مستقبله المستقل.
أو إنه يواصل نفس السياسية القائمة على الخداع والمكايدة وثقافة التوطين والتدجين "حفاظا على الوحدة اليمنية من الجنوبيين".
لو إن حديث السيد رئيس الوزراء يتعلق بالسويد أو بلجيكا أو سويسرا لكان يمكن استيعابه وفهم مبرراته، لكن عندما يتعلق الأمر بدولتين وشعبين فشلا في إتمام أربع سنوات على محاولة توحيدهما، فانقلب الطرف الذي ظن نفسه "الأقوى" على من كان يعتقده "أضعف" وبدولة (مفترضة) شمالها ينقلب على رئيسها (الجنوبي) ويعتقله مع حكومته ورئيس حكومته (الجنوبي)، ويلاحقه إلى عاصمته المؤقته (الجنوبية)، وحكومة هاربة خارج الحدود، وجنوب حرر أرضه بتضحيات ودماء وأرواح أبنائه ودعم أشقائه، في حين تتعايش غالبية سكان الشمال مع الانقلابيين وتعجز فيالق جيشه المسمى "وطنياً" عن التقدم عشرة أمتار في خطوط المواجهة، فإن الأمر لا يمكن فهمه إلا على أن لدى هذا البلد حكومة تجهل على أية أرضية تشتغل وعلى من تعتمد، حكومة لا تمتلك أية مهارة في معالجة تعقيدات الملفات الشائكة والمركبة المطروحة على طاولة عملها وتتصرف بنفس عجرفة وتعالي أسلافها الذين أوصلوا البلاد إلى هذا المستوى من الهوان والتلاشي حتى صارت هوية هذا البلد مصدر شر لكل من يحملها في كل بقاع العالم.
استمرار التمسك بسياسات الضم والإلحاق واستيراد مواطنين بدلاء للمواطنين الجنوبيين، وتزييف الوقائع وتزوير الحقائق بمسميات إنسانية ظاهرها الرحمة وبطنها المكر والخداع، لن يضيف إلا المزيد من عناصر التوتير والمواجهة ويؤسس لمزيد من الحناء والبغضاء بين الشعبين في الجنوب والشمال بلا سبب إلا بقاد نزعة الهيمنة والاستحواذ، أما النزوح الإنساني فلن يكون إلا محل اهتمام ورعاية ومؤازرة لكل مستحق للعون من أين ما كان منشأه.
حديث رئيس الوزراء ذكرني بالمثل المصري الطريف الذي يقول "جئتك يا عبد المعين تعينني. . . . . . . ."