سمير عطا الله يكتب:
زائر المكتبات
كانت صحافة أحمد بهاء الدين مثله تماماً: الثقافة والطيبة والتجدد والموضوعية الكبرى والشجاعة. بهذه الميزات، تنقّل مبدعاً في صحافة العرب، رئيس تحرير في «صباح الخير»، و«روزاليوسف»، و«الأهرام»، و«العربي»، وكاتباً بلا مسؤوليات في «الشرق الأوسط» و«المستقبل» الباريسية.
جاء إلى الصحافة من دراسة القانون بمحض الصدفة. لكنه تحول على الفور إلى معلّم ومجدّد، إضافة إلى أنه نشر في المهنة قواعد الأخلاق والتسامح وتشجيع المواهب وتقليل الحسَد بقدر الإمكان، في مهنة تقتلها الغيرة ويختلط فيها الموهوب بأكياس الخيش. وفي نهاية المطاف، البقاء للحقيقة. كان بهاء أحد الذين شغفت بهم منذ اللحظة الأولى. وبسبب سهولة أسلوبه وبساطته، خُيِّل إلي على الفور أن من الممكن مجاراته. وكلما كنت أزداد نضجاً، ازددت قناعة أن بهاء صناعة لا يجيدها إلاّ هو.
عندما كان في «صباح الخير» خطر له سؤال كبير: أي نوع من الكتب يقرأ أولئك الكتّاب الكبار؟ فقام بجولة من الزيارات على مكتبات طه حسين ولويس عوض وتوفيق الحكيم وساطع الحصري. تأمل رفوف الكتب، ومن خلالها روى أيضاً سيرة أولئك الرجال. دائماً بذكائه وعُمقه ولمحاته. فمكتبة عميد الأدب العربي منظّمة مثل شخصه، وخصوصاً بإشراف زوجته الفرنسية. كل قسم منها مخصص لمرحلة من مراحل حياته البحثية. ومكتبة توفيق العظيم، المعروف أيضاً بتوفيق الحكيم، مليئة بما حَمَله من كتب من فرنسا. والكتب التي لم يستطع شراءهابمصروف الطلاب، عاد فدفع أثمانها مضاعفاً في القاهرة. وأستاذ الأدب الإنجليزي لويس عوض، مكتبته منسّقة مثل مكتبات النقّاد والمتخصّصين.
المفاجأة كانت في مكتبة ساطع الحصري، «أبو خلدون» كما كان يحب أن يُنادى، فلم يأخذ بلُبّه شيء كما أخذ إعجابه بابن خلدون. منه استوحى فكرة الدعوة إلى القومية والوحدة. ومن دراسته أدرك أن أهم عناصر التوحيد هي الثقافة المشتركة. فلا أحد في العرب يسأل من أين جاء المتنبي، أو يعرف من أين أتى ابن الرومي وامرؤ القيس. كانت مكتبة الحصري في غرفة صغيرة من إحدى غرف الفنادق، حيث يقيم في القاهرة. كلها مليئة بالكتب، بما في ذلك بعض من السرير.
ولما تعجب بهاء من أن تكون هذه كل مكتبته، روى له الحصري أن مكتباته مثل حياته موزّعة حول أنحاء العالم العربي، وخصوصاً في حلب، حيث أقام أكثر من سواها. ولد الحصري في صنعاء، من أب وأم سوريين، حيث عمل والده قاضياً شرعياً. وفي أول القرن الماضي تنقّل مدرّساً بين بلغاريا ويوغوسلافيا واليونان. وأصبح وزيراً للمعارف في حكومة الملك فيصل الأول في سوريا. ثم ذهب إلى العراق داعماً لثورة رشيد عالي الكيلاني، فلما فَشِلت، طُرد من بغداد، فذهب إلى مصر مبشراً بالعروبة ووحدتها، محاربا النزعة الفرعونية، كما حارب من قبل القومية السورية والعراقية وأي نزعة محلية أخرى.