الحبيب الأسود يكتب:

ليبيا بين العسكرة والميلشة

ترتفع أصوات دعاة الإرهاب وأمراء الحرب وقادة الميليشيات وزعامات الإخوان والقاعدة وناهبي المال العام، وسياسيين مرموقين، ودول إقليمية وأجنبية، لتحذر من عسكرة ليبيا، تعبيرا عن رفضها لتقدم الجيش الوطني إلى المنطقة الغربية وبالأخص العاصمة طرابلس، لتحريرها من سلطة الميليشيات وتطهيرها من جماعات الإرهاب.

في كل أرجاء العالم، هناك جيوش وطنية، مهمتها حماية سيادة الدولة وتأمينها من الاعتداء الخارجي والمحافظة على الحدود البرية والمياه الإقليمية والمجال الجوي للدولة، والتدخل عند الطوارئ لتحصين مؤسسات الدولة ووحدة الشعب واستقرار المجتمع، ولكن ما يحدث في ليبيا هو أن البعض يحاول ترذيل الجيش وتفضيل الميليشيات، بما يخدم استمرار الأزمة وبالتالي يعطي مجالا أوسع للمستفيدين من حالة الفوضى وخاصة في نهب المال العام، وهو ما أشار إليه المبعوث الأممي، غسان سلامة، منذ أيام عندما قال إن الصراع في ليبيا هو صراع من أجل الثروة، وأن ليبيا تشهد في كل يوم ظهور مليونير جديد.

الإسلام السياسي يرى هو الآخر أن وجود جيش قوي يمثل خطرا عليه وعلى مشروعه، لذلك كان أول مقترح قطري مدعوم من إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بعد سقوط النظام السابق في 2011، هو حلّ الجيش نهائيا وتعويضه بما سمّي بجهاز للحرس الوطني تكون مهمته حماية الحدود والمؤسسات الحيوية، وقد ورد هذا المعطى في شهادات عدد من قادة تلك المرحلة من بينهم مصطفى عبدالجليل ومحمود جبريل وعبدالرحمن شلقم.

الواقع أن هذا الاقتراح كان يصب في إطار ضرب المؤسسة العسكرية في ليبيا كما حدث في العراق بعد الغزو عام 2003، فالقوات المسلحة ذات العقيدة الوطنية والقومية لم يعد مرغوبا فيها في المنطقة، وعندما تمت الإطاحة بالنظام الليبي عام 2011، تم تفكيك المؤسسات العسكرية والأمنية، ووجد أغلب الضباط وضباط الصف والجنود أنفسهم إما في سجون الميليشيات أو لاجئين إلى دول الجوار، وإما عرضة للاغتيال وخاصة في المنطقة الشرقية، التي تميّزت بأن قوات الجيش فيها لم تتعرض لقصف قوات الناتو، لذلك اتجه مناوئوها من المتشددين إلى تصفية المئات من ضباطها الكبار، تماما كما حدث في العراق.

في مايو 2014، تم تجميع حوالي 400 عسكري لتنفيذ عملية “الكرامة” التي كانت بمثابة انتفاضة من قبل رجال الجيش بقيادة خليفة حفتر، لتنطلق معركة تطهير الشرق من الجماعات الإرهابية التي كانت تصب في خدمة مشروع التمكين للإسلام السياسي بدعم خارجي معلن، ووجدت تلك القوات دعما من القبائل ومن عموم الشعب، وانضم إليها مقاتلون من كل أرجاء البلاد، خصوصا في ظل المصالحة الشاملة التي استطاع حفتر تطبيقها على أرض الواقع، حيث طلب من كل الضباط وضباط الصف والجنود اللاجئين إلى الخارج أو المنكفئين على أنفسهم العودة إلى مواقعهم للقيام بمهامهم الوطنية.

الجيش الليبي استطاع بإمكانيات متواضعة أن يؤسس لنفسه كيانا قويا بتراتبية عسكرية احترافية، ونجح في تحرير بنغازي والمنطقة الشرقية ودرنة والهلال النفطي من الجماعات الإرهابية، وامتد نفوذه إلى أقصى الجنوب الغربي

استطاع الجيش الليبي بإمكانيات متواضعة أن يؤسس لنفسه كيانا قويا بتراتبية عسكرية احترافية، ونجح في تحرير بنغازي والمنطقة الشرقية ودرنة والهلال النفطي من الجماعات الإرهابية، وامتد نفوذه إلى أقصى الجنوب الغربي حيث طارد عصابات التهريب والإرهاب والاتجار بالبشر والمرتزقة الأجانب، وانضمت إليه ألوية وكتائب من المنطقة الغربية المحيطة بالعاصمة، ووضع يده على منابع الثروة النفطية دون أن يتدخل في إدارتها وإنما سلّمها للمؤسسة الوطنية للنفط في طرابلس.

مقابل ذلك، كانت ولا تزال بعض مدن الساحل الغربي تخضع لنظام “الميلشة” وهو سيطرة ميليشيات يقودها أمراء حرب، ويقاتل في صفوفها شباب غير متدرب وغير منضبط ولا علاقة له بالاحترافية العسكرية، يتم تحريكه بمصالح مالية بحتة، وببعض الفتاوى الدينية والخطب ذات المنحى الحزبي والجهوي، وبشيء آخر مؤثر في ولائها لقادتها وهو الإفلات من العقاب عند ارتكاب الجرائم الدموية في حق بعضها أو في حق المدنيين العزل كما حدث في قرقور وتاجوراء وسوق الجمعة وبني وليد وورشفانة وسرت وغيرها.

هذه الميليشيات التي لا تزال تتحكم في العاصمة وبعض المدن الأخرى منذ عام 2011، تعتبر الحاكم الفعلي في القرار السياسي منذ حكومات المؤتمر الوطني العام وإلى اليوم، وهو ما أكدته تقارير البعثة الأممية، وتصريحات بعض أعضاء المجلس الرئاسي الذين آثروا الاستقالة أو تجميد عضويتهم، مثل عمر الأسود وعلي القطراني وموسى الكوني وفتحي المجبري، وبات معروفا لدى الجميع أن قادة تلك الميليشيات يتحكمون في الصفقات والاعتمادات المالية وأسواق العملة وفي التعيينات الإدارية، ولا يترددون في اختطاف هذا المسؤول أو ذاك، والتحقيق معه إن لزم الأمر، ولا يتردّدون في تصفية الحسابات في ما بينهم بالاغتيال، كما أنهم أصبحوا يحتكمون على ثروات طائلة في الداخل والخارج تعدّ بمئات الملايين من الدولارات، بعضهم يتم التحويل لهم بأسمائهم، والبعض الآخر بأسماء أتباعهم أو شركاء لهم في دول عدة.

وفي يناير الماضي، اعترف فتحي باش آغا، وزير الداخلية في حكومة الوفاق الوطني الليبية، بأن الميليشيات المسلحة الموجودة في العاصمة طرابلس باتت تهمين أكثر فأكثر على القرار السياسي والاقتصادي، واتهمها بعدم طاعة الدولة أو خضوعها للشرعية، وأضاف في تصريحات تلفزيونية على قناة “بي بي سي” البريطانية، أن هذه الميليشيات المسلحة التي لم يحددها بالاسم تتسبب في فوضى أمنية، وتفعل ما تريد في مؤسسات الدولة الليبية، معتبرا أنها تسيطر فعليا على القرارات الاقتصادية والسياسية وأنها “ترفض الامتثال لتعليمات المؤسسات الحكومية كافة، سواء جهازي المخابرات أو المباحث أو وزارة الداخلية، وباتت قوة موازية لديها نفوذ كبير على مدى العامين الماضيين، بالإضافة إلى أنها تسيطر أيضا على ميزانية هذه الوزارة التي تنتمي إليها اسميا فقط”، على حد قوله.

وما جاء على لسان باشا آغا، يدعمه المبعوث الأممي غسان سلامة الذي أكد في أكتوبر الماضي أن “هناك ما يتجاوز 200 ألف مقاتل في التشكيلات العسكرية قدمت لهم الدولة الليبية منذ خمس سنوات، نوعا من الغطاء، فيأخذون رواتب من الدولة، ولكن يأخذون أوامرهم من زعماء الميليشيات”، موضحا أن “معظم المال الليبي يتم بابتزاز المصارف والمؤسسات السيادية أو بالسيطرة على موانئ أو مؤسسات حيوية أو من تهريب البشر والنفط والمواد المدعومة إلى دول الجوار”.


ولكن لماذا ترتفع الأصوات المدافعة عن تلك الميليشيات؟ الواقع يؤكد أن أطرافا داخلية مستفيدة وخارجية طامعة لا تريد لهذه الفوضى أن تنتهي، وهي لا ترى مانعا في تقسيم البلاد طالما أن ذلك يحول دون انتشار القوات المسلحة، بما تمثله من هيبة وسيادة الدولة، فأمراء الحرب لا يريدون التخلي عن السلطة الفعلية التي يمارسونها على الأرض، وبعض القوى الإقليمية والدولية تخشى على أتباعها من الإسلاميين وترى في المشير خليفة حفتر عدوا لهم، قد يجتثهم من مواقع القرار والنفوذ، وربما من العملية السياسية ككل.

واليوم ترتفع الأصوات دفاعا عن الدولة المدنية، مقابل الدفاع عن سلطة الميليشيات، والدولة المدنية بالنسبة لهؤلاء هي نقيض الدولة التي يقوم فيها الجيش بدور محوري، في حين أن الدولة المدنية في تعريفها العلمي هي دولة تحافظ وتحمي كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الفكرية، وهناك عدة مبادئ ينبغي توفرها في الدولة المدنية والتي إن نقص أحدها فلا تتحقق شروط تلك الدولة أهمها أن تقوم تلك الدولة على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، بحيث أنها تضمن حقوق جميع المواطنين، ومن أهم مبادئ الدولة المدنية ألا يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر. فهناك دوما سلطة عليا هي سلطة الدولة والتي يلجأ إليها الأفراد عندما يتم انتهاك حقوقهم أو تهدّد بالانتهاك. فالدولة هي التي تطبق القانون وتمنع الأطراف من أن يطبقوا أشكال العقاب بأنفسهم.

وإذا علمنا أن الجيش الليبي يدافع عن سيادة الدولة ووحدة أراضيها وسلامة حدودها وعن الحل السياسي للمصالحة الشاملة ويدعو إلى الدستور والانتخابات ويضم عناصر من كل المناطق والجهات والقبائل والأقليات، فإن ذلك يعني أننا أمام مشروع وطني حقيقي، عكس ما يروّج له من أن حفتر يسعى إلى عسكرة الدولة، محاولين الإبقاء على ميْلشتها.