نجيب غلاب يكتب:

إلى «المتعجّلين»... إعادة إعمار سوريا لا تزال بعيدة

ربما أن بعض العرب الذين ذهبوا هرولة إلى دمشق وسطاءَ وسماسرةً، وطمعاً في حصة؛ إن لم تكن مجزية؛ فـ«معقولة»، في إعادة ما تهدّم وما جرى تدميره خلال حرب الأعوام الثمانية الأخيرة، لا يتابعون المواقف الدولية الفاعلة والمؤثرة على هذا الصعيد؛ حيث طرأت خلال الأشهر الأولى من هذا العام مستجدات أوروبية وأميركية أدت إلى وقف الانفتاح على نظام بشار الأسد، وإلى استبعاد أي نية لإعادة فتح سفارات بعض الدول الغربية؛ من بينها بريطانيا وبالطبع الولايات المتحدة، في العاصمة السورية.
والمعروف أن كثيرين من العرب، الذين سال لعابهم، قد منّوا أنفسهم بإعادة إعمار سوريا، وعلى أساس أن هناك مثلاً عربياً يقول: «عندما تقع البقرة يكثر السلاخون». لكن ما لم يأخذه هؤلاء بعين الاعتبار هو أن القرار بالنسبة لهذا الأمر ليس قراراً عربياً؛ بل قرار الدول الغربية الفاعلة، كالولايات المتحدة أولاً وبالدرجة الأولى، وبعض الدول الأوروبية، مثل بريطانيا وفرنسا وأيضاً ألمانيا. ولعل ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن هذه الدول قد فرضت على نظام بشار الأسد عقوبات صارمة لارتكابه جرائم بشعة ومرعبة ضد السوريين وعلى أسس مذهبية وطائفية، وأنها حذرت الدول العربية، التي ذهبت هرولة إلى دمشق قبل أن يتم حسم الأمور، بأن عليها ألا تذهب بعيداً في هذا الاتجاه ما دام أنه قد فرضت على سوريا المزيد من العقوبات الدولية.
كانت الدول الغربية، كما هو معروف، قد فرضت عقوبات صارمة على هذا النظام بعد استخدامه الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين الأبرياء في مناطق متعددة من سوريا، وكذلك فإن الولايات المتحدة قد بادرت، إنْ سابقاً وإنْ لاحقاً، إلى فرض عقوبات على إيران؛ آخرها اعتبار «حراس الثورة» منظمة إرهابية، مع العلم بأن دولة الولي الفقيه قد أبرمت اتفاقيات مع هذا النظام جعلت سيطرتها مطلقة على كل شيء في هذا البلد العربي، حيث أصبحت منطقة اللاذقية على البحر الأبيض المتوسط قاعدة عسكرية إيرانية تشكل المرتكز الاستراتيجي لـ«الهلال الإيراني» المعروف.
وعليه؛ فإن إيران، التي تمكنت من تحقيق اختراقات عسكرية وأمنية واقتصادية وسياسية في بعض الدول العربية، والتي أصبح قرارها، رغم اعتراض روسيا ومشاغباتها الخجولة، هو القرار الفعلي والرئيسي في سوريا، لا يمكن أن تسمح لأي دولة عربية بمد يدها نحو هذا البلد العربي ما لم تكن تابعة لها وعلى غرار ما عليه الوضع بالنسبة للبنان، وللجزء «الحوثي» من اليمن، وأيضاً العراق، و«الشقيقة» قطر التي، وللأسف، قد أخرجتها تطلعاتها غير الموضوعية من ثوبها العربي وألبستها ثوباً إيرانياً وتركياً فيه تمزقات كثيرة.
كان على بعض العرب ألا يذهبوا إلى دمشق؛ المكبلة بالاحتلال الإيراني وبالعقوبات الأميركية والأوروبية، هرولة وبطرق ارتجالية وعشوائية، وكان عليهم أن يدركوا أن هناك عقوبات أميركية، وأن واشنطن قد أقرت قانوناً يمنع إعادة الإعمار في هذا البلد ما لم يسبقها الحل السياسي المنشود وبناءً على «جنيف1» والقرار الدولي رقم 2254، ثم كيف من الممكن أن يكون هناك إعمار في هذا البلد المدمر الذي لا يزال يخضع لاحتلالات كثيرة؛ إذ، بالإضافة إلى الهيمنة الإيرانية المطلقة، هناك الروس وانتشارهم وقواعدهم العسكرية، وهناك الأتراك الذين يسيطرون على منطقة إدلب الاستراتيجية؟
وهكذا، وفوق هذا كله، فإن هناك احتلالاً إسرائيلياً لهضبة الجولان التي اعترف الرئيس الأميركي دونالد ترمب للإسرائيليين بالسيادة عليها، وهناك أيضاً احتلال الإسرائيليين «جبل الشيخ» الذي يشكل برجاً شاهقاً يطل على دمشق، ويشكل نقطة مراقبة تغطي معظم المناطق السورية، والذي كان دوره «استراتيجياً» في حرب عام 1973، وقبل ذلك في حرب عام 1967.
وكذلك؛ وبالإضافة إلى هذا كله، فقد كان على الذين ذهبوا إلى «دمشق نظام بشار الأسد»، أن يدركوا أن هذا البلد لا يزال غير مستقر أمنياً، وأن المعارضة المسلحة لا يزال لها وجود حتى في درعا وبالقرب من السويداء في جبل العرب، وأن «داعش» و«النصرة» لا يزال لهما وجود فاعل في هذا البلد الذي، حتى الآن، ليست فيه سلطة واحدة؛ وإنما «سلطات» خارجية متعددة وكثيرة؛ أخطرها، بالنسبة لمن أرادوا ويريدون الاستثمار في سوريا، «حزب الله» اللبناني، والميليشيات الإيرانية، وأيضاً «حراس الثورة» بقيادة محمد علي جعفري، الذين عدّتهم الولايات المتحدة منظمة إرهابية.
لقد كان على العرب، الذين «تعجّلوا» في الذهاب إلى دمشق، وأكثر من اللزوم، أن يتريثوا، ما دامت الأوضاع في هذا البلد لم تستقر بعد، وما دام الصراع عليه لا يزال في ذروته، وما دام الفساد، رغم كل ما حل به من ويلات، قد نخره نخراً، وأن أهم رموزه، ومن بينهم أقرب المقربين من الرئيس السوري نفسه وبعض أفراد عائلته وأيضاً كثير من وزرائه، قد تحولوا إلى عصابات سلب ونهب... وحقيقة؛ فإن هذا كله وأكثر منه قد بات حديث السوريين كلهم وحديث الجهات الدولية والعربية كلها المتعاطية مع الأزمة السورية.
والآن؛ قد بدأت عمليات الانكفاء؛ أولاً: لأنه ثبت بعد تجربة غير طويلة أنه لا أمل قريباً في البدء بعملية بناء ما تهدم في سوريا. وثانياً: لأن القرار قد جاء من واشنطن بأن لا إعادة إعمار قبل أن يكون هناك حل سياسي فعلي وعلى أساس «جنيف1» والقرار رقم 2254، ولأن هذا الحل كما هو واضح لا يزال بعيداً، وأن النظام لا يريده، وأن الإيرانيين يرفضونه، وذلك في حين أن الروس لا تزال لهم اعتراضات كثيرة عليه، ثم إنه من الواضح أن ما يريده رجب طيب إردوغان بدوره هو شريط حدودي في إدلب بعرض 30 كيلومتراً يسعى لإضافته إلى لواء الإسكندرون السليب الذي كان احتله مصطفى كمال أتاتورك في عام 1938 وألحقه اغتصاباً بما تبقى من أملاك الدولة العثمانية.
وكذلك، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن الأردن قد تخلى عن «اندفاعاته» الأخيرة غير الموضوعية تجاه سوريا؛ أولاً تماشياً مع القرارات والمواقف الأوروبية والأميركية، وثانياً لأنه قد ثبت له أن هذا النظام القائم في دمشق لا يزال على ما هو عليه وأنه لا يريد عملياً أي علاقات فعلية مع الأردنيين، وهذا لأسباب متعددة وكثيرة؛ وإلا ما معنى أن يقوم باعتقال 30 مواطناً أردنياً كلهم ليسوا من قائمة المطلوبين الأردنيين للمخابرات السورية، التي تضمنت أكثر من 9 آلاف مطلوب؛ بعضهم وزراء ووزراء سابقون ومسؤولون كبار في الدولة الأردنية.
ويبقى في النهاية أنه لا بد من أن يأخذ «المتعجّلون» هؤلاء في الانفتاح على سوريا بعين الاعتبار أن هذا البلد لا يزال ممزقاً، وأنه لا يزال يخضع لاحتلال إيراني فعلي؛ عسكري وسياسي واقتصادي، ولهيمنة روسية، ولأطماع تركية بات بعضها يتحقق على الأرض، مما يعني أن إعادة الإعمار في هذه الدولة العربية، لا تزال بعيدة جداً، وهي في كل الأحوال محجوزة سلفاً للإيرانيين والروس وللأميركيين والدول الغربية كلها، وهذا إذا كانت نهاية نظام بشار الأسد قد أصبحت بالفعل قريبة وعلى غرار ما حدث بالنسبة للمشير عمر البشير، وأيضاً للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة.