عدلي صادق يكتب:

تخليق الاتهامات الأردوغانية لدولة الإمارات

من خلال ما يصدر بين الحين والآخر من بيانات أو تصريحات تركية، حول استهداف أمن البلاد واستقرارها، يتخيّل للمرء أن نظام الحكم الأردوغاني، ليس له سوى عدو واحد، ليس على حدود تركيا أو يطل على البحر الأسود أو بحر إيجة وليس له مع تركيا تاريخ من الحروب، ولا هو منافس استراتيجي لها، ولا ذا خلاف مذهبي ولا لوحظ عليه اعتماد سياسات بوليسية اقتضت الانغلاق والتحسب من الانفتاح، وإنما هو دولة الإمارات العربية المتحدة، بما فيها من مدن مفتوحة على العالم، وقادة ليس من هواياتهم خوض السجالات والتعرض للآخرين، أو لديهم قنوات تلفزيون صفراء تنام وتقوم على ممارسة الكلام السفيه في حق رجال العمل العام في بلدان الآخرين، وتناول أشخاصهم وتاريخ بلدانهم بكل سياقات قتل السمعة وتشويه الحقائق، مثلما هو الحال في الحضرة الأردوغانية.

فبين الفينة والأخرى، تقول أنقرة إن هناك محاولة إماراتية لزعزعة نظام الحكم التركي، وتعلن عن ضبط أشخاص يستهدفون البلاد، وكأن الصراعات تجري بمنطق ألعاب الأطفال!

كان واضحا منذ الإطاحة بحكم “الإخوان” في مصر، إثر انتفاضة الملايين من المصريين في 30 يونيو 2013 أن سياسة تركيا الأردوغانية تركز في بغضائها، أكثر ما تركز، على دولة الإمارات العربية المتحدة، في خفّة وصل إسفافها إلى حد الزجّ باسم النائب الفلسطيني محمد دحلان، الذي جعلته الحكايات السخيفة، قرين جوزيف ستالين، عدو تركيا الكمالية في الأربعينات، على الضفة الأخرى من البحر الأسود!

المعنيون بالشأن التركي يعلمون أن ما يسمّى “حزمة الإصلاحات السابعة” في تركيا، غيّرت المعادلات داخل مجلس الأمن القومي التركي، وجعلت كفة الساسة ترجح على كفة الضباط الأمنيين المحترفين داخل المجلس الذي تأسس بعد انقلاب 1960 وهو خليط فيه الكثير من العسكر والقليل من المدنيين، وتأطر دستوريا في العام التالي لكي يصبح المُوجه الفعلي للسياسات العامة، الداخلية والخارجية. وخلال السنوات الطويلة التي شهدت الكثير من التعديلات في منهجية عمل المجلس، ظل ضمان سطوة العسكريين والحفاظ على القواسم المشتركة مع إسرائيل، هما العاملان الثابتان في الحسابات الاستراتيجية التركية. فلا ولن يُسمع اتهام تركي لمخابرات إسرائيل التي لا تنام، لذا بدت إسرائيل، حيال تركيا، عالية التهذيب.

ولما طرأت بعض التطورات الجيوسياسية، ونشأ في الهوامش القليل من التعارض في التكتيكات، بين النظام الأردوغاني وحكومة الليكود، أعيدت صياغة التحالف بين الطرفين، على أن تتفهّم تل أبيب حاجة أنقرة للتعاطف مع الفلسطينيين وقضيتهم، لكي تحظى بوداد الشعوب العربية، وهي تسعى إلى الهيمنة والوصاية على بلدانها في المشرق، مقابل أن تتفهّم أنقرة دواعي إسرائيل للتعاطف مع الأكراد وتسليحهم لإضعاف العراق وسوريا وإيران.

فقد كانت التسوية تتطلبُ أن تتوافق تركيا وإسرائيل على الخطوط الحمراء التي لا تتعديانها، وتوافقا على عدم المساس بثوابت الاستراتيجيا وطي صفحة خلاف عابر وقع إثر قتل إسرائيل عددا من المواطنين الأتراك المتضامنين مع غزة في حادث السفينة مرمرة في نهاية مايو 2010!

عندما انفجرت الأوضاع في سوريا، كان التنسيق التركي الإسرائيلي موازيا للتنسيق الروسي الإسرائيلي: تل أبيب تؤيد أنقرة في ضخ النفايات البشرية الداعشية إلى بلد لا يستسيغ شعبه التطرف في لبوس الدين، وتركيا مع قطر تباركان الرعاية الإسرائيلية لـ“جبهة النُصرة” على حدود الجولان. وبعد سنوات تتوافق موسكو وتل أبيب وأنقرة، على تأمين إسرائيل أولا، بتصفية “النصرة” في وادي اليرموك وعلى حدود الجولان على أن تتعهد روسيا بإبعاد الإيرانيين!

في تركيا، حتى العام 1992 كانت كفة العسكريين وضباط الأمن، ترجح على كفة المدنيين في مجلس الأمن القومي. ومع صعود أردوغان كان المجلس هو أول ما وضع عينه عليه، لكي يبدأ عملية الإحلال التي تناسبه. ففي ذلك السياق جرى إلحاق كادر حزب العدالة والتنمية بالمجلس، فغلبت عليه السمة الحزبية على حساب المهنية، لكي يوجّه السياسات بالتناغم مع مشروع الرئيس أردوغان، لاسيما بعد أن وجد هذا الأخير ضالته في محاولة الانقلاب على الحكم في صيف العام 2016. انتهز أردوغان الفرصة للانقضاض على من لا يضمن ولاءهم أو يتوقع انقلابهم عليه. وفي ذلك السياق اخترع الحكم التركي أعداء لنفسه، كان من بين رموزهم ستالين الفلسطيني الموهوم محمد دحلان، باعتباره – كما في المعنى الضمني للاتهامات- المحرّض العربي الأساسي لاثنين وعشرين جنرالا ضخما.

دحلان، في ذهنية أردوغان، ليس معارضا عاديا للحكم الإخواني وحسب، كغيره من مئات الملايين من المعارضين لمثل هذا الحكم، وإنما هو، في ظنه أو في زعمه، أحد صانعي الإطاحة البليغة بحكم “الجماعة” في مصر. فهو لا يريد أن يعترف بأن الذين أطاحوا ذلك الحكم، هم عشرات الملايين من المصريين الذين تحسّسوا الخطر على السلام الاجتماعي وعلى الدولة وعلى المحيط العربي، وساندتهم في ذلك القوات المسلحة!

من المفارقات أن دولة الإمارات التي اتهمت بالضلوع في محاولة الانقلاب على أردوغان، كانت سبّاقة إلى التعاون معه ضد من يتهمهم، إذ تصادف وجود اثنين من جنرالات الجيش التركي في دبي، اعتقد أردوغان أنهما ضليعان في المؤامرة، وطالب بتسليمهما فسلمتهما الإمارات، وفعلت حليفته إسرائيل الشيء نفسه وسلمت الملحق العسكري التركي المتهم بالضلوع في محاولة الانقلاب.

لا يختلف اثنان، على كون جماعة “الإخوان” هي فرس الرهان الأردوغاني لتحقيق طموحات الرئيس التركي وعُثمانيته الجديدة، في المشرق العربي. وهذه الجماعة ليست فرساً تصلح للعرض في ساحة “تقسيم”. لكن أردوغان يريدها في ميدان التحرير وفي ساحة “المرجا” التي شنق فيها القوميون التركيون، بينما هم يرتدون الزي العثماني، أحرار العرب ومن بينهم متفقهون في الدين أتقياء ورجالات علم وكفاح وطني.

فرس الرهان الإخواني الذي أدركه الهُزال بعد جموح، أصبح عاجزاً حتى عن الشخير، ولم تعد الأجياد خيلاً، وإنما باتت محض شاشات للثرثرة تبث من تركيا، موضوعها الوحيد عبر الفيديوهات، هو أن أمة العرب ليست إلا من خائنين، ولم يكن في تاريخها مناضلون وشرفاء، وحتى أم كلثوم جعلوها صناعة صهيونية، أما العسكر فهم الشياطين، ولا ندري حتى الآن ما هو تصنيف عسكر السودان الذين أنقذوا وطنهم، وماذا ستقول عنهم قنوات التخوين التي تبث من تركيا!

وفي عمى الألوان وعمى الجغرافيا السياسية، اختزلت تركيا الأردوغانية أعداءها، في دولة الإمارات التي يأنف قادتها الثرثرة ولا يكترثون لمن يثرثرون، وجعلت محمد دحلان، كالمتنبي في زمانه، مالِئ الدنيا وشاغل الناس!