هاني مسهور يكتب:

عن الحقبة الأردوغانية

من أشهر مقولات الرئيس التركي أردوغان «من يفوز بإسطنبول يربح تركيا؟»، وفي أول انتخابات بلدية بعد أن اعتمدت تركيا النظام الرئاسي، خسر حزب العدالة والتنمية مدينة إسطنبول، إلى جانب العاصمة أنقرة، في مؤشر يؤكد انحسار شعبية أردوغان، وأن تراكمات سياسية واقتصادية، باتت تشكل نهاية الحقبة الأردوغانية، وتفتح الباب لخارطة سياسية مختلفة للدولة التركية.

الصدمة التي يعيشها أنصار حزب العدالة والتنمية، تنعكس على سياسات هرم الدولة التركية، التي لا تجد غير الاندفاع للهروب من معالجات واقعية لأزمات تركيا السياسية والاقتصادية.

وهنا لا بد من العودة إلى سياسات الرئيس التركي، ما بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة (يوليو 2016)، فلقد تم اتخاذ إجراءات داخلية قاسية، كانت هي أحد أهم عوامل تراجع حزب العدالة والتنمية، وخسارة الاقتصاد التركي لمليارات الدولارات، بعد أن فضلت رؤوس الأموال الأجنبية الخروج من السوق التركي، لترتفع معدلات التضخم لمستويات قياسية، إضافة لفقدان الليرة التركية لأكثر من نصف قيمتها أمام الدولار الأمريكي.

لا شيء يأتي بالصدفة، فما وصلت إليه تركيا من اختناق سياسي واقتصادي، هو نتيجة لما بعد ما يوصف بأنه الربيع العربي في 2011، الذي حاولت تركيا أن تستفيد منه كقوة طامعة في التوسع والنفوذ، في ما يطلق عليه الأتراك (المتعصبون)، بأنه استعادة للإمبراطورية العثمانية، ومن خلال ذلك تغولت تركيا في أزمات الدول العربية، وعملت على الاستثمار في جماعة الإخوان المسلمين، حتى تحولت لمنصة تدير الفوضى والانقسامات في العواصم العربية المضطربة.

لم تكن تركيا على خصومة مع محيطها العربي، برغم التباينات، حتى جاءت ثورة 30 يونيو 2013 في مصر، التي كانت نقطة تحول في علاقة أنقرة بالعالم العربي، ومن هنا يمكن بالفعل تأسيس مرحلة مختلفة مع العالم العربي، ففي الوقت الذي كانت تركيا تلعب أدوراً متقدمة في الأزمة السورية، وتحاول استثمارها لتحقيق أهدافها في مواجهة الأكراد، خصوم تركيا التقليديين، كانت تركيا تلعب اللعبة الأخطر في أن تتحول لممر آمن لعشرات الآلاف من مقاتلي تنظيم «داعش»، الذين تسللوا إلى الأراضي السورية والعراقية، حتى أعلن التنظيم الإرهابي دولته على الحدود الجنوبية مع تركيا.

احتلال تركيا لمدينة عفرين السورية، يمكن اعتبارها أنها محاولة خلق بيئة لتمرير الصبغة للنفوذ العسكري على التراب العربي، وهذا ما تعزز في منتصف عام 2017، عندما أرسلت تركيا قواتها العسكرية إلى دولة قطر، بعد قطع علاقات (السعودية والإمارات ومصر والبحرين) مع النظام القطري، لتخرج التحالفات السرية إلى العلن، وتنكشف الأجندات بشكل غير مسبوق، أحدث زلزالاً سياسياً في المنطقة، فلقد أظهرت المقاطعة تحالف (إيران وتركيا وقطر)، وعليه، تشكلت الكتلة المعادية لاستقرار الشرق الأوسط.

تمثل الرغبة التركية في التوسع العسكري أبعادها، بعد أن أعلن أردوغان عن إقامة قاعدة عسكرية في الصومال، وتلاها إبرام أنقرة لحزمة مشاريع مع السودان، كان من بينها ميناء سواكن على البحر الأحمر، استراتيجياً، يعتبر ما قامت به تركيا هو إحاطة كاملة بالجزيرة العربية، ووجوداً غير مسبوق في الخليج العربي والبحر الأحمر، ما يضع الأمن القومي العربي ضمن دائرة التهديدات، ويعزز المخاوف تجاه الاندفاع التركي في الإقليم العربي.

أظهر الرئيس أردوغان خطاباً أكثر عدائية، بعد حادثة مقتل خاشقجي، وحاولت تركيا أن تستخدم القضية سياسياً، وتجريدها من صيغتها الجنائية، وواصلت محاولات ابتزاز السعودية في الحادثة، وعلى امتداد فصول القضية، التزمت السعودية بسياق واضح، بينما كانت تركيا تعتمد التسريبات الإعلامية، لتحقيق أهداف سياسية بحتة، كانت تركيا تذهب إلى أعلى تصعيد، بينما كانت العملة التركية تواصل نزيفها، وفي المقابل، وجد المواطن التركي نفسه أمام سياسات أفقدته قيمة مدخراته المالية، التي تبخرت بافتعال أزمات سياسية، بدلاً من البحث في معالجات واقعية للأزمات التركية.

الحقبة الأردغاونية تبدو على مشارف زوالها، مع انتخابات عام 2023 المقبلة، فالمؤشرات الاقتصادية تظل ترسم مستقبلاً قاتماً، فالديون التركية المستحق سدادها حتى منتصف 2020، تتجاوز 118 مليار دولار، في ظل تباطؤ النمو، وزيادة معدلات التضخم، تبدو مسألة الالتزام بالسداد أشبه ما تكون مستحيلة، وما يزيد من المخاوف الاقتصادية، تراجع قطاع السياحة لأدنى مستوياته في عشرين عام، ما يؤكد أن خللاً داخلياً يعصف بمستقبل أردوغان، الذي يعاني من مخاطر تنفيذ الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية، بعد أن أصرت أنقرة على شراء منظومة الصواريخ الروسية (إس ـ 400).

المعطيات تؤشر إلى أن الانقسامات التي يشهدها حزب العدالة والتنمية، ما بعد نتائج الانتخابات البلدية، إنما هي إرهاصات لتراكمات الأخطاء التي وقع فيها الحزب، والاندفاع تحت رغبات قيادته، التي أصرت على سياسة الانتقال من النموذج الاقتصادي الأكثر نجاحاً، إلى النموذج الباحث عن إشباع رغباته التوسعية، وصناعة الأوهام باستعادة الإمبراطورية العثمانية البائدة، لذا، فإن الخارطة السياسية التركية، باتت مقبلة على تغيرات موضوعية، ليس لأن حزب العدالة والتنمية يعيش تفاعلات داخلية، بل لأن اليسار والقوميين الأتراك، من الواضح أن صعودهم للمشهد السياسي، أصبح مطلوباً لإدارة تركيا، ما بعد الحقبة الأردوغانية.