د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):
رمضان شهر الفتوحات
إن من عظمة شهر رمضان الكريم أنه ليس شهر الصيام والتهذيب والتأديب وقراءة القرآن فحسب، بل هو شهر الانتصارات وإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى في الأرض، حيث كانت الأمة الإسلامية عبر تاريخها الطويل، على موعد مع الفتوحات والانتصارات في هذا الشهر الكريم، ففيه وقعت أهم أحداث التاريخ الإسلامي وأروع الانتصارات والفتوحات ومن أهمها:
وقعت غزوة بدر الكبرى، في السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة وأطلق عليها القرآن الكريم “يوم الفرقان”، وهي أولى المعارك المهمة في التاريخ الإسلامي، حيث كان عدد المسلمين فيها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وعدد المشركين تسعمائة وخمسين رجلاً، وكان مع المشركين سبعمائة بعير ومائة فرس، بينما لم يكن مع المسلمين سوى سبعين بعيراً وفرسين، ولكن كانت معهم القوة الإلهية، التي لا تغلبها أية قوة في الأرض مهما كانت، وفي ذلك يقول الله تعالى: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ)، فكان النصر للمسلمين، ويوم بدر هو اليوم الأغر في جبين التاريخ الإسلامي العريق .
.
من الذكريات الإسلامية الخالدة في هذا الشهر المبارك، ما وقع فيه من النصر المؤزر للمسلمين في كثير من الغزوات والمعارك التي خاضوها على مر التاريخ، مثل: فتح عمورية، في السادس من شهر رمضان سنة 223 هـ، بعد أن جهز المعتصم جيشاً لحرب الروم استجابة لصرخة إحدى النساء المسلمات فنادت : (وامعتصماه) ، حيث حاصر عمورية وأمر بهدمها.
كذلك معركة العبور في العاشر من شهر رمضان المبارك سنة 1393 هـ السادس من أكتوبر سنة 1973 م انتصر جنود الحق على المحتلين الإسرائيليين، وارتفعت رايات الحق عالية خفاقة.
وفتح أنطاكية، في الرابع عشر من شهر رمضان سنة 666 هـ على يد الظاهر بيبرس، حيث حاصرها الظاهر في مستهل رمضان وفتحها يوم السبت (الرابع عشر) من شهر رمضان وغنم منها أشياء كثيرة، ووجد عدداً كبيراً من أسرى المسلمين، وكان حاكم أنطاكية الصليبي من أشد الحكام أذى للمسلمين حين احتل التتار حلب، وتعتبر أنطاكية من مراكز الصليبيين الرئيسة.
فتح مكة :.
في العشرين من شهر رمضان المبارك في السنة الثامنة للهجرة كان فتح مكة الذي دخل الناس في أعقابه في دين الله أفواجا، والذي كان من أجل نصرة المظلومين من بني خزاعة الذين غدر بهم كفار قريش وقد حرص - عليه الصلاة والسلام - على دخول مكة دون قتال يذكر، فدخلها دخول الشاكرين لله عز وجل، دخلها وهو راكب على ناقته وكادت جبهته - صلى الله عليه وسلم - أن تمس عنق ناقته شكراً وخضوعاً لله سبحانه وتعالى ومن الدروس التي نتعلمها من (فتح مكة) درس العفو عند المقدرة، حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولته المشهورة لسادة مكة بعد أن استسلموا بدون قتال: “يا معشر قريش ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخٌ كريم وابن أخ كريم، فقال: فإني أقول لكم ما قاله يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء.
معركة "حطين"
معركة حطين الشهيرة التي استُرِدَّ بعدها الناصر صلاح الدين بيت المقدس عام (583هـ - 1187م).
وكان صلاح الدين الأيوبي يعلم علم اليقين أن النصارى الصليبيين ليسوا من السهولة أبدًا؛ ولذلك سارع إلى إدخال إصلاحات جذرية في الجهاد، وكان يطبق قول الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]؛.
وكانت معركة حطين تمهيدًا لدخول صلاح الدين - رحمه الله - إلى بيت المقدس، وتم بفضل الله نصر الله المبين حيث التقتْ جيوش المسلمين بجيوش الصليبيين في "حطين"، وكان ذلك في عام 583هـ - 1187م.
لقد جمع الصليبيون عشرين ألف مقاتل، جمعوهم من كل دويلات الصليبيين واشتبك الجيشان، وانجلت المعركة عن نصر ساحق لصلاح الدين مع تدمير تام لجيش أعدائه، لم يكن أمام جيش صلاح الدين بعد معركة حطين إلاَّ أن يتقدم نحو القدس،
استرداد القدس:
تحصن الصليبيون بداخلها، فاتَّخذ صلاح الدين "جبل الزيتون" مركزًا لجيوشه، ورمى أسوار المدينة بالحجارة عن طريق المجانيق ففرَّ المدافعون، وتقدَّم المسلمون ينقبون الأسوار، فاستسلم الفرنجة، وطلبوا الصلح، فقبل صلاح الدين، واتفق الطرفان على أن يخرج الفرنجة سالمين من المدينة على أن يدفع الرجل عشرة دنانير، والمرأة خمسة، والصبي دينارين، ووفَّى المسلمون لهم بهذا الوعد،.
المشهد المؤثِّر بعد المعركة:
رحمة صلاح الدين:
"يُروى أن مجموعةً من النبيلات والأميرات قلْنَ لصلاح الدين - وهنَّ يغادرْنَ بيت المقدس -: "أيُّها السلطان، لقد مننْتَ علينا بالحياة، ولكن كيف نعيش وأزواجنا وأولادنا في أسرك؟! وإذا كنا ندع هذه البلاد إلى الأبد، فمَن سيكون معنا من الرجال للحماية والسعي والمعاش؟! أيُّها السلطان، هَبْ لنا أزواجنا وأولادنا؛ فإنك إن لم تفعلْ أسلمْتنا للعار والجوع"، فتأثر صلاح الدين بذلك، فوهب لهنَّ رجالهن".
مَلَكْنَا هَذِهِ الدُّنْيَا قُرُونا وَأَخْضَعَهَا جُدُودٌ خَالِدُونَا
وَسَطَّرْنَا صَحَائِفَ مِنْ ضِيَاءٍ فَمَا نَسِيَ الزَّمَانُ وَلَا نَسِينَا
معركة عين جالوت :
معركة عين جالوت وقعت في الرابع والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 658 هـ وتعتبر من الصفحات المشرقة في التاريخ الإسلامي، حيث استطاع الجيش المسلم بقيادة قطز ومساعده بيبرس أن يهزم الجيش المغولي “التتار”، الذي قتل ودمر عبر طريقه الطويل من منغوليا حتى فلسطين، وكان يقود هذا الجيش كتبغا نائب هولاكو، ولما حمي وطيس المعركة صرخ قطز صرخته المشهورة وا إسلاماه، التي حركت المسلمين ودفعتهم دفعاً إلى النصر
.فتح الأندلس :
في الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة 92 هـ بقيادة القائد طارق بن زياد كان فتح الأندلس، حيث انتصر المسلمون في هذه المعركة التي استمرت ثمانية أيام، وأصبحت الأندلس بعدها مصدراً للعلم والحضارة، ومنها أشرق نور العلم الإسلامي على أوروبا كلها، بعد أن كانت تَغُطُّ في سبات الجهل العميق.
قيمة هذا الشهر العظيم وفضله، أن المسلمين لم يخوضوا حرباً ولا معركة ولا فتحاً في هذا الشهر الكريم إلا وكان النصر حليفهم بإذن الله تبارك وتعالى، كما نتعلم درساً عظيماً، وهو أن رسالة الإسلام باقية إلى يوم القيامة.
إنّ شهر رمضان المبارك هو شهر البطولات والانتصارات، فعلى المسلمين أن يدرسوا تاريخهم المجيد، لالتقاط العبر والعظات، وصدق الله العظيم: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)، “سورة الحج،الآية 40
وبعد، فإننا نلاحظ شيئًا عجيبًا جدًّا بعد هذه الرحلة التاريخية في رمضان! فقد انتصر المسلمون تقريبًا على كل الفرق المعادية للإسلام في شهر رمضان، انتصرنا على المشركين في بدر وفتح مكة، انتصرنا على الفرس عُبَّاد النار في البُوَيْب، انتصرنا على الصليبيين في حطين وانتصرنا على التتار في عين جالوت، وكذلك حرب التحرير العظيمة التي حدثت في 10 رمضان سنة 1393هـ، التي اشتهرت بحرب 6 أكتوبر سنة 1973م، فتحررت سيناء، وهو انتصار مجيد، فالحواجز التي عبرها الجيش المصري تدخل في عداد المعجزات العسكرية، والروح الإيمانية كانت مرتفعة جدًّا عند الجيش وعند الشعب، ، وللأسف عندما بدأ الشعب يتغير وبدأت كلمة (أنا) تعلو بديلاً عن كلمة الله عز وجل، وبدأت مقولة: "أنا فعلت"، بدلاً من: "الله فعل". لَمَّا حدث هذا حدثت الثغرة، وبدأ التأزُّم في الموقف، لكن على كل حال كان نصر رمضان سنة 1393هـ نصرًا باهرًا، ولا يأتي رمضان إلاَّ ونتذكر هذه الانتصارات، وهذه نعمة عظيمة مَنَّ الله عز وجل بها علينا، لنظلَّ نتذكر الجهاد والانتصار إلى يوم القيامة.
واليوم يهل علينا رمضان ونحن نعيش الحروب الأهلية الطاحنة التي تكاد تعم الوطن العربي الكبير ..حروب تحمل عناوين عديدة كل طرف يحمل عنوانا يختلف عن الآخر وذرت الفتن والمذاهب قرونها في الأوطان وانتشرت الفتن والأحقاد بين أهل البلد الواحد...!!
يهل علينا رمضان منذ عدة سنوات ونحن نعيش الأزمات الطاحنة والحروب المستمرة و الصراع على الحكم مع ما يرافقه من الأمراض والمجاعات والتهجير القسري من الأوطان..يهل علينا رمضان كل عام ونحن نعيش هذه الحروب التي لا أفق لها ..ونتذكر أيام الانتصارات في الماضي ونتحسر على واقعنا المزري اليوم وفي ذلك ينطبق علينا ما قال الإمام مالك رحمه الله: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) وأوائلنا وسلفنا الصالح هم الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.