ذكريات باص التاتا في (عدن)
خلال سنوات الدراسة من الابتدائية إلى الثانوية تعاقبت على إيصالنا من وإلى المدرسة ثلاث وسائل للمواصلات، قبل الوحدة وإلى وقت الحرب في العام 1994 كانت مؤسسة النقل توفّر باصات ضخمة، حافلات التاتا الزرقاء الشهيرة؛ التي يتعين عليك لتركبها أن تشتري تذكرة صفراء بحجم اصبعين متلاصقين، كان ثمنها لا يتجاوز الشلن، وكانت نوعًا لائقًا من الأشياء التي تود أن تدفع لأجلها المال، بعد الحرب، ولعدّة أعوام لاحقة، انهارت مؤسسات الدولة في الجنوب اليمني ولم يفوّت هذا الانهيار قطاع النقل، أصبحنا نتجوّل على سيارات الهيلوكس، أقول على وليس في، لأن هذا النوع من السيارات صُممت ظهورها لنقل شحنات البضائع والمواشي وأصبحت بطريقةٍ ما تنقلنا، نحن، بشر هذه البقعة من العالم..
في الحقيقة لم يكن الأمر مأساويًا كما بدا للتو، خاصية التأقلم التي نمتاز بها على نحو خارق؛ سمحت للأمر أن يتحول بعد فترة بسيطة إلى رثاثة مقبولة، ثم أنّ الهيلوكس تم تحريفها محليًا، فقد وُضع على طرفي الصفيح الخلفي للعربات مقعدان طوليان، بعض السيارات وضعت عليها مقاعد خشبية سُمّرت إلى الحديد والبعض الآخر مقاعد معدنية جرى تثبيتها باللحام، على كل جانب وفوق كل مقعد 5 ركاب والعدد الكلّي 12، غلفت هذه المساحة الخلفية بالطرابيل لتتحوّل إلى مايشبه عربات نقل الجنود، في الأمام حيث المقاعد المريحة يجلس اثنان، غالبًا من المرضى وأصحاب العلل في المفاصل الذين لا يستطيعون امتطاء ظهر الهايلوكس المرتفع..
كان الركاب يصعدون على نحو عشوائي في الجهتين، ثم بعد فترة أصبحت الأوامر صارمة بأن يفصل الرجال عن النساء، جهة لهم وجهة لنا، كنا نحن دائمًا، ثم أصبحنا نحن وهم، كنا دائمًا إلى جانب بعضنا ثم أصبحنا في مواجهة بعضنا، بفضل هذه الأوامر، وحريٌ أن أنوّه بأنها، أعني الأوامر الصارمة في عدن، لا يلزم أن تأتي من جهة محددة، فهي امتدادات فكرية أكثر منها شيئًا آخر، كأمواج الغدير الضخمة، يبدّل بعضها بعضًا.. أخبرتُ ريم ذات مرة وأنا أحدثها عن عدن: أنه لو كان للمدن دماء فستحظى عدن بالزمرة AB، أنها الآخذ العام، النوع المتساهل من الفصائل، في كل مرة نزفت فيها ونُقلت إليها دماء غريبة لم ترفضها، بل إن كثيرًا من هذه الدماء أصبحت بفضل الامتنان أعز من دمائها الأصلية، تقلّبت عدن في تاريخها على جوانب كل الأيدلوجيات من أول الماركسية الشيوعية وحتى السلفية الجهادية، سالت في عروقها كل الفصائل والزمرات، السياسية والعقائدية.
سيكون من المهم في مقام كهذا أن نشير إلى أن محصّل التذاكر وهو الموظف الحكومي في زمنه، فقد وظيفته ككثير من موظفي الدولة وعمالها.. وسلّمت مهمته بسلاسة إلى الكرّاني، والكراني في الغالب طفل أو مراهق فقير يستخدمه سائق العربة ليجمع النقود من الركّاب بمقابل زهيد.. فقدتْ النساء في عدن أصواتهن ووجههن هن الأخريات، اختفتْ الوجوه تحت الوشاح الأسود وتحولت عبارة "معك نازل ياليد" التي كن يصرخن بها في وجه السائق إلى ضربات على صفيح الباص، تدق إحداهن بقطعة نقودها او بيدها على الزجاج أو المعدن المجاور لها فيفهم الناس إنها تريد النزول من الباص.. ليس باص التاتا الأزرق الضخم هذه المرة ولكنه ميكروباص صغير، ثالث وسائل النقل التي تعاقبت على نقلنا من وإلى المدرسة !