د. عبدالناصر الوالي يكتب:
حتى لاننسى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في مثل هذا اليوم كنا تحت القصف. في مثل هذا اليوم هناك من غدر بنا محاولا ان يسرق منا احلامنا مستقبل اولادنا بل وطنا كل وطنا. كنا واهلنا وأولادنا، جيرانا وأصدقائنا ،زملائنا وأحبتنا، نحاول ان نعيش ونتعايش. نحاول ان ننظر الى المستقبل وننسى الماضي. كل املنا في وظيفه شريفة ولقمة نظيفة ومسكن مريح ودافئ. كنا نؤمن بالحوار والتفاهم. كنا ندعوا الى السلام والمحبة( سلمية، سلمية). كنت في المحاظرة في كلية الطب والعلوم الصحية بداء إطلاق النار في جبل حديد. أولادي في مدرسة سباء والكبار في الجامعة في الأسنان في الهندسة في العلوم الإدارية. يالله إطلاق نار كثيف من كل مكان. قصف شديد من حولنا. كان السؤال مع الطلاب هل نستمر بالمحاظرة ام نغادر؟.
كان جواب احد الطلاب حازم. ( نغادر يا بروف البنات الى البيوت ومنها الى المستشفيات ونحن الشباب الى الجبهات. اذا لم ندافع عن ارضنا نحن فمن يدافع). غادرنا جميعا. توجهت الى المدرسة لأخذ أولادي الصغار الى المنزل. الناس من حولي يركضون في حالة من الرعب والهلع. المدرسة في فوضى عارمة. تقطعت الطرق بكثير من الأهالي ولم يستطع الكثيرين منهم ان يصل لأخذ أولاده. إدارة المدرسة كانت متماسكة. تعهدوا بان لا يتركوا التلاميذ الا بعد ان ياتوا اهاليهم لأخذهم او ستتولى المدرسة أخذهم الى مكان أمن. أصيب الناس بالهلع والرعب.
لم يكن احد يتصور ان قوات الجيش والأمن اللتي من المفترض ان تحمينا هي من يعتدي علينا. زاد أزيز الرصاص وجلجلة القذائف وصفير الصواريخ من حولنا. ويوم بعد يوم يزاد القصف ويزداد الحصار. مئات القتلى والجرحى.
لا يعلمون لماذا يقصفون ويقتلون ويجرحون. تموت ربت البيت وأسرتها جميعا ولا احد يسعفهم. يموت الابن في حضن ابيه وأبيه عاجز لا يفهم. مات موظف الإسعاف ومات مسعف الهلال الاحمر اليمني. مات صديق احمد ابني الشاب خالد أمين رحمة الله عليه وحزن احمد حزن شديد لم يفارقه حتى اللحظة. نتذكره فتدمع اعينا. نزح كل اهلي من بيوتهم في المعلا وعدن وخورمكسر الى المنصورة او الى خارج عدن. لم نعد نسمع الا اخبار الموت والدمار.
لم يعد هناك احد نستطيع ان نزوره او يزورنا. لم يعد لنا جيران. تشتت أصدقائنا ورحل الكثير من احبتنا. ونحن لا نزال محتارين( باي ذنب قتلت). لم نعادي احد ولم نهاجم احد. لم نغتصب ارض احد ولم نعتدي على حرمة احد. نفكر في قطعة الخمير وكوب الشاهي في الصباح ورز وخصار( صانونة) السمك في الظهيرة وقرص الروتي مع الفاصوليا او في احسن الاحوال مع حبة كراعين( كوارع) مساءً. كل ما نشعر اننا اغترفناه من ذنب هو اننا أردنا وحدة عدل ومساواة في الوقت الخطا والمكان الخطا. مات صديقي الدكتور احمد جميل من حمى الضنك اللتي فتكت بأكثر من ثمانية آلاف مصاب مات زميلي واخي وأستاذي الدكتور محمد البعسي من الملاريا والضنك.
وربما مات قهرا. مات الأطفال في دار سعد وفي المنصورة شارع السجن. عّم الجوع والفقر وانتشرت الأوبئة. انعدمت المياه وعطلت الكهرباء. شحت المحروقات. وصل الامر في المستشفيات ان اليوم الذي نتحصل فيه على وجبة أرز ابيض مع قليل من التونة( اربع علب تونة لأكثر من مئاتين جريح ممدد في المستشفى) يعد يوم جيد. حينها في عدن( كريتر) والتواهي والمعلا وخورمكسر حتى هذه الوجبة تعتبر حلم.كابوس يشتد يوم عن يوم ولا يلوح في الأفق اي بصيص لضوء او أمل.الوحدة او الموت.
كنا نعرف جيدا ان المقصود الموت لنا ولكن الوحدة لم نعد نستطيع ان نفهم لها معنى. فجروا خزانات المصافي اخر ماكان يمد عدن بقليل من المحروقات واستشهد مدير المصافي وهو يحاول ان يغلق صِمَام الأمان في أنبوب النقل حتى لا ينتشر الحريق وتنفجر المصفاة. تكتلت الناس في التقنية وإنماء كالنمل بعظها فوق بعض لم تتسعهم الغرف ولا الصالات ولا البلكونات ولكن وسعت صدورهم وتراحمت قلوبهم وتأخت ارواحهم وسمت نفوسهم.اكثر من ثلاثة آلاف شهيد بعظهم لا يعرف له قبر وأكثر من ثلاثة عشر الف جريح اغلبهم لا زال يعاني من جراحه ويحاول ان يتغلب على الامه. يتعايش مع فقدان قدمه او كلاهما، عينه او كلاهما.لايتحصل على كرسي متحرك لكي ينتقل به الى الحمام فقط.
فلم يعد يستطيع ان يخالط الناس.قطعت شوارع عدن ومزقت احيائها ولازالت مجزئة. كنا نحلم بالسير من عدن الى صنعاء دون نقاط تقطع فصرنا لا نأمن الخروج من حافة الى حافة. هل نسيتم ايها الاحبة. أرجوكم لا تنسوا. يمكنكم ان تسامحوا ولكن لا يمكنكم ولا يجب عليكم ان تنسوا. ادعوا للشهداء بالرحمة وللارامل والثكالى بالصبر وادعوا للجرحى بالشفاء ولذويهم بالثبات. ادعوا لنا بوطن تسوده المحبة والرحمة والتسامح. ادعوا لنا بعدن بماتعنيه وكما نحبها. تحياتي
ا. د. عبد الناصر الوالي