د. محمد عاكف يكتب:
الوساطة بين واشنطن وطهران
مع كل خلاف يندلع بين دولتين وينذر بالتصاعد بما يهدد الأمن على نطاق أوسع، يبدأ الحديث عن التدخل والوساطة بينهما، بمعنى دخول طرف ثالث للمساعدة على إنضاج صيغة تتوافق عليها الدولتان لتبني مواقف أقل ميلاً إلى اللجوء للعنف وأكثر رغبة في البحث عن بدائل سلمية لوضع حد لهذا الخلاف، وبمعنى آخر اتفاق على قواعد إدارة الخلاف وعدم السماح له بالتصعيد أولاً ومن ثم اتخاذ خطوات نحو تسهيل طرح الحلول له.
الوساطة فعل دبلوماسي كبير الأهمية في السياسات الخارجية وممارسة متميزة للدولة التي تقوم بها، إذ تعبر من خلالها عن صوت مسموع لها في الأروقة السياسية الإقليمية أو الدولية وعن الوثوق بمصداقيتها لدى طرفي الصراع وعن قناعتهما بصدق النوايا ونزاهة المسعى.
فرص نجاح الوساطة يعتمد على عوامل عدة منها طبيعة الأزمة وعمق جذورها وتشعب تأثيراتها ووصولها إلى دول أخرى، وتعتمد كذلك على مدى التوازن بين طرفي الصراع إقليمياً ودولياً والثقل السياسي الذي تتمتع به الدولة التي تتولى الوساطة. ومن شروط نجاح الوساطة أيضاً طبيعة الأجواء التي من خلالها يستدل عن مدى تقبل أحد أطراف الصراع أو طرفيه للوساطة من خلال ما يطرح من تصريحات أو تلميحات.
ومع أن الأمم المتحدة اضطلعت منذ إنشائها بدور حاسم للمساعدة في الوساطة في النزاعات الجارية بين الدول أو الجارية داخل الدول نفسها سواء في المرحلة السابقة لاندلاع الصراع أو بعد اندلاعه وتطوره إلى صراع مسلح.
إلا أنها نأت بنفسها عن الخلاف الأمريكي الإيراني فقد اعتبرت في أغسطس 2018 بأن «محكمة العدل الدولية لا تمتلك الصلاحية للنظر في الخلاف الأمريكي الإيراني والعقوبات الاقتصادية الجديدة المفروضة على إيران».
في سياق التصاعد في التوتر بين واشنطن وطهران ارتفعت أصوات دول تتحدث عن رغبتها في التوسط بين الطرفين لمنع نشوب حرب، كما تنذر السحب التي تحيط بالأزمة منها العراق وسويسرا واليابان ودول أوروبية، على الرغم من أن بعض هذه الدول ضعيف لا يمتلك القدرة في التأثير على مراكز صنع القرار في البلدين.
إلا أنه على الرغم من عدم وجود وساطة معلنة إلا أن هناك قنوات اتصال فاعلة لإيصال بعض الرسائل على مستويات معينة لا يراد لها أن تصل إلى الإعلام.
إيران على المستوى الرسمي غير راغبة البتة في الدخول في صراع مسلح مع الولايات المتحدة، فهي على وعي تام بعواقب ذلك، وهي الأكثر رغبة بالتفاوض مع واشنطن لأنها المتضرر الأول من بقاء الأزمة على حالها واستمرار حالة الحصار المدمر لاقتصادها الذي أنهك إلى حد بعيد جداً، لذلك طغى «نفس» التفاوض على «نفس» التحدي في خطابها السياسي الرسمي على مستوى رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية، على الرغم من صدور تصريحات تعبر عن عكس ذلك من جهات صقورية مثل الحرس الثوري.
سيناريو المفاوضات وفق سقف معين أسمته بعض وسائل الإعلام «شرط تغيير السلوك» للدخول في مفاوضات لاحتواء التصعيد القائم بدأ يفرض نفسه مع تراجع الحرب الكلامية والتهديد بالذهاب نحو سيناريو المواجهة العسكرية، تصريحات الرئيس روحاني أصبحت أكثر واقعية إذ يتحدث عن إمكانية للتفاوض ولكن دون ضغوط، رافعاً بذلك بعضاً من الخطوط الحمر التي وضعها المرشد الأعلى خامنئي من أنه «لا تفاوض ولا حرب مع الولايات المتحدة».
الولايات المتحدة من جانبها عبرت عن إيجابيتها في التعاطي مع الأزمة حين أوقف الرئيس ترامب حزمة عقوبات جديدة كان مزمعاً فرضها على إيران، وأدلى في اليابان أثناء زيارته الأخيرة لها بتصريحات تخلو من الطابع التهديدي لإيران وصرح وزير خارجيته خلال زيارته سويسرا وفي السياق ذاته بأن بلاده مستعدة للجلوس على طاولة المفاوضات دون شروط مسبقة سوى أن تبدأ إيران بتغيير سلوكها والبدء بالتصرف كدولة مسؤولة.
لا شك أن الولايات المتحدة وهي مقدمة، على الأرجح، على التفاوض مع إيران على قناعة تامة ويشاركها في ذلك معظم دول العالم بأن القيادة الإيرانية لا يمكن أن تغير سلوكها، فسياساتها نابعة من دستور ذي طابع ثيولوجي يضفي على الكيان الإيراني القائم سمات «الثورة» وليس سمات «الدولة».
فهذه القيادات تعيش في آفاق فكرية أغلقت مساراتها وفق قراءات معينة لأحداث تاريخ كتبت معظم فقراته في فترات لاحقة لأسباب سياسية وعرقية.