د. محمد عاكف يكتب:

نشر الفساد.. مدخلاً للهيمنة

من العبث أو ربما إضاعة للوقت البحث عن تعريف جامع لمعنى مصطلح «الفساد» الذي يدان بعنف في ساحات العراق المنتفضة بعد أن أوصلنا جهابذته وأساتذته إلى متاهات التنظير المُتعب.

فقد تفننت الطبقة السياسية الحاكمة في تضليل الرأي العام واستعراض قدراتها الفسادية المتميزة وأساليب فرضها وتنفيذها شرعياً ودستورياً وتنوع طرائق مواجهة من يتجرأ على تحدي ذلك قضائياً أو خطفاً أو تصفية جسدية.

نحن لا نواجه هذه الآفة المدمرة مجسدة في أفراد قلائل فحسب بل في قيم وثقافة وممارسات مؤسسات تعشعش بين ظهرانينا تتستر بشتى الأردية الآيديولوجية والعرقية والدينية والمذهبية والمناطقية حسب طبيعة الظروف ولا تتردد في رفع الشعارات المبالغة في الوطنية وهي غارقة في مستنقع الخيانة والتبعية والولاء للغير. الفساد في العراق من نوع خاص جداً، فهو ليس هدر المال العام أو سرقته.

ولا تبوؤ مناصب دون توافر الكفاءة الوظيفية، ولا الحصول على مكاسب ومغانم دون وجه حق أو استحقاق، ولا تزوير انتخابات المجلس النيابي ومجالس المحافظات، ولا الإدلاء بتصريحات كاذبة من موقع المسؤولية، ولا التستر على الجرائم وابتزاز القضاء، ولا التخابر مع الأجنبي، ولا فتح باب المزادات لبيع المناصب، الفساد في العراق له ميزة من نوع خاص.

فهو أوسع وأشمل كثيراً من هذا كله لأنه ليس تطويعاً للحاضر ولي عنقه واستنزاف قدراته لصالح إحدى دول الجوار فحسب بل التآمر على المستقبل وإغلاق فرص النهوض على كل المستويات أفراداً ومؤسسات ودولة.

لم يكن الهدف الرئيسي من الاستشراء الممنهج للفساد في العراق هو الكسب المادي أو النفوذ السياسي أو الوجاهة المجتمعية وإن بدا كذلك لدى ممارسيه والمستفيدين منه بل هو أبعد من ذلك على مستوى رسم الاستراتيجيات المستقبلية في المنطقة.

وهو تطويع البلد وإرادته السياسية نحو تغيير ولاءاته لصالح إيران فهو، أي الفساد، يرتبط عضوياً بحضورها الكثيف في مفاصل الدولة طيلة السنوات الماضية خاصة بعد انسحاب القوات الأمريكية عام 2011، مستغلة الفراغ الذي نشأ إثر بدء الولايات المتحدة بالتخلي عن مسؤولياتها فيه كدولة احتلال.

وفي عموم المنطقة لصالح الاهتمام استراتيجياً بالشرق الأقصى وبما يجري في بحر الصين الجنوبي. حجم الفساد في العراق لم يتوقف عند كل ما ذكرناه بل ارتهنت بسببه سيادة الدولة وأمنها لدى أيدٍ أجنبية أمعنت في سلبه ونهب ثرواته، وليس من باب الارتجال أن يرفع المنتفضون الشعار الأكثر سعة وشمولية لانتفاضتهم «نريد وطناً».

 

محاربة الفساد لا تتوقف عند السعي لاسترداد الأموال المنهوبة، فالفساد بالحجم الذي هو فيه لا يجتث بقرارات قضائية بل بأجندة سياسية إذ ليس هناك تصدٍ حقيقي له دون استعادة سيادة الدولة العراقية.

لم نر على مدى ستة عشر عاماً نوايا حقيقية للإصلاح والتصدي للفساد رغم كثرة الحديث عن ذلك في تصريحات المسؤولين وفي برامجهم السياسية، فهم عاجزون عن فعل ذلك وإن أرادوا، ومن هذا اليأس الذي أصبح مستداماً لا نهاية قريبة له استمد شباب العراق قوتهم وعزمهم على التغيير في انتفاضة قل مثيلها في معظم المدن العراقية في تحدٍ للعنف المفرط الذي يمارس ضدهم من قبل القوات الأمنية أو من قبل «طرف ثالث» يتولى القنص لا أحد يجرؤ على تسميته. فليس لدى هؤلاء الشباب ما يخسره إذ لم تكن أمامه فرص للبدء بالحياة، فقد ولد مسلوباً منها.

ولعل ما نشرته صحيفة نيويورك تايمز أخيراً من معلومات مسربة من الداخل العراقي وُصفت بالموثوقة عن علاقات «مُذلة» لقيادات سياسية وأمنية عراقية مع إيران، وعن قيام الحرس الثوري الإيراني تولي مهام معينة في بعض المناطق داخل العراق قد وضعت في حوزة المنتفضين أدلة قوية على مشروعية انتفاضتهم، وأضعفت بشكل كبير موقف الطبقة السياسية الفاسدة.

هذه المعلومات لم تكن مفاجئة للعراقيين فهم على بينة منها وعلى الكثير جداً غيرها مما لم ينشر عن تداعيات هذه التبعية لإيران على ما طرأ من تغييرات على البنى الديموغرافية في المدن وعلى التهجير والإخفاء القسري لمئات وربما الآلاف من المواطنين وعلى عمليات الخطف والاغتيال.

، وعلى البنية التحتية الأمنية التي صنعتها إيران بمساعدة حلفائها في مكاتب ومقرات الأحزاب والكتل السياسية ليس في تجاوز على ما للعراق من سيادة بل إلى ما هو أكثر خطورة من ذلك، وهو تهديد أمن دول جواره.

* كاتب عراقي