د. محمد عاكف يكتب:
الميليشيات مصدر عذابات الشعوب
الآلام الشديدة التي يتعرض لها ضحايا التعذيب الجسدي في دهاليز السجون والمعتقلات في بعض الدول تترجم لدى غالبيتهم، وبشكل لا واعٍ، إلى صراخ تتصاعد حدته وترتفع وتيرته إلى مستويات لا يمكن تحملها، فتعمل أدواته الدفاعية الذاتية إلى إدخاله حالة اللاوعي، حيث تتحول ردود أفعاله إلى حشرجات وأنين.
بعيداً عن الانفعالات، وتجنباً لإقحام الرأي المرتجل، الذي قد تجر إليه حوارات لا تزال قائمة، سراً أو علناً، منذ عشرات السنين في مجتمعاتنا الشرق أوسطية حول ما يتعرض له قلة ممن تحمل أفكاراً سياسية أو تقوم بممارسات تزعج السلطات الحاكمة، فهذا ليس موضوع مقالتنا، رغم أهمية فضحه والتصدي له، بل سنتطرق إلى التعذيب وما إليه مما لا يحدث داخل أقبية السجون والمعتقلات، وإنما تتعرض له الشعوب نفسها خارجها. تعذيب لا تتعرض فيه هذه الشعوب لهول الصدمات الكهربائية أو تقطيع الأوصال أو قلع الأظافر أو المهانة والإذلال، إلا أننا نستمع لحشرجة الضيم الذي تشعر به، ونستمع إلى أنين حرمانها من حقوقها في العيش بكرامة، ونتعاطف مع غضبها الهادر المتصاعد، وهي تشهد اغتيال أبرز رموزها وناشطيها، ونلمس الإحباط المتزايد في صفوف شبابها الذين فقدوا الثقة بالمستقبل.
عذابات الشعوب تتحول إلى صراخ من نوع خاص، صراخ لا يعبر عن الشعور بالألم، رغم عمق غرزاته العميقة في أرواحهم، بل زمجرة غضب جمعية متمردة بوجه السلطات الحاكمة رفضاً لاستمرار الأوضاع التي تسمح بالإبقاء على الفقر والتهميش، وتحدياً لقرارات السلطات الغاشمة.
لسنا بحاجة لتصفح كتب التاريخ بحثاً عن أمثلة لهكذا دول أو لهكذا شعوب، فالحاضر شديد الغنى بالدلالات عليها، فهناك دول عديدة تصر سلطاتها الحاكمة على وضع شعوبها وإبقائها في حالة عذاب جمعي كما في عدد من الدول في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، إلا أننا لن نتجشم عناء البحث الموسع بعيداً عن جغرافيتنا وآفاق ثقافتنا، بل نكتفي وفق ذلك بإيراد مثلين لا غيرهما، العراق ولبنان، بلدي المصائب والفواجع وتفشّي الفساد فيهما.
لبنان والعراق بلدان نموذجيان للحالة التي نحن بصددها، بلدان تفجرت فيهما انتفاضتان عارمتان لا تزالان قائمتين منذ أكتوبر 2019 تطالبان باجتثاث الطبقات السياسية الفاسدة، انتفاضتان من المتوقع أن يعاد في ضوء تداعياتهما صياغة التوازنات السياسية في عموم المنطقة. بلدان المشتركات بينهما هو أن دولتيهما مختطفتان من قبل ميليشيات مسلحة لها ولاءات خارجية فرضت شرعية هيمنتها بطرائق مختلفة جعلت الدولة بكافة مؤسساتها رهن إراداتها ومصالحها! ميليشيات لا تتردد في استخدام أية وسيلة لضمان ذلك!
بلدان يشهدان مستوى غير مسبوق من الفساد أصبحا بسببه يرزحان تحت طائلة ديون ثقيلة، داخلية وخارجية، من الصعب جداً سدادها، وأصبحت فرصهما للحصول على المساعدات الخارجية ضئيلة جداً. بلدان أصبحت الخدمات فيهما في أدنى درجاتها، مع تراجع كبير في مستويات المعيشة وانتشار البطالة، التي أصبح لها تداعيات خطيرة جداً، وخاصة على شريحة الشباب وعن مدى قناعاته بجدوى الحياة نفسها وهو يرى بوابات المستقبل مغلقة بوجهه وبإحكام شديد.
على المستوى الرسمي، لا تعير الأسرة الدولية أهمية تذكر لما يتعرض له أفراد أو أحزاب سياسية من قمع واضطهاد في هذا البلد أو ذاك، وهو أمر يؤسف له، إلا أنها من جانب آخر لا تستطيع أن تغض الطرف عما يجري للشعوب التي تطلق صرخاتها من هول ما تتعرض له من ظلم وإجحاف، وعلى أمد طويل، في شتى ما متاح لها من وسائل إعلام في عصر لم يعد التستر فيه على ما يجري هنا أو هناك أمراً ممكناً، خاصة حين تصبح أزمات هذه البلدان مصدر خطر على الاستقرار الإقليمي وربما الدولي في حال تطور تداعياتها، كما هو الحال في الأوضاع المتشنجة في كل لبنان والعراق.
إلا أن للأسرة الدولية، بشتى مؤسساتها ومنظماتها، آليات معقدة وحازمة لتقديم المساعدات المالية أو غيرها للدول التي تمر بأزمات شديدة، لا تستطيع الحكومات المختطفة من قبل الميليشيات ذات الولاء للأجنبي، التجاوب معها حتى لو أرادت ذلك، فتلبيتها يتطلب استعادة الدولة المختطفة عبر اتخاذ إجراءات جريئة، وفي مقدمتها القضاء على الفساد، وتصفية هذه الميليشيات، مهما كانت المسميات التي تختفي خلفها.