سعيد النخعي يكتب:
حقيقة الصراع الجنوبي
لم يدعِ أي حزب شمالي أنه الممثل الشرعي والوحيد لأبناء المحافظات الشمالية خلال ستة عقود من الزمن بما فيهم عفاش الذي يعد عهده أطول عهود حكم الثورة،ظلت أنظمة الحكم رغم تخلفها منفتحة على الأحزاب،والرموز الدينية والاجتماعية حتى في أشد مراحل اختلافها مع معارضيها ظل خلافهم سياسيًا ولم يجرؤا أحد على إدعاء الوصاية على الشعب أو مصادرة وطنية الخصم،وأن وجدت بعض المعارك الإعلامية إلا أنها تظل في حيز الخلاف السياسي، واختلاف وجهات النظر،كما يظل كل حزب في خندقه السياسي،ولايذهب للتخندق المناطقي حتى في أشد مراحل ضعفه،انظر كيف يديرون خلافهم السياسي اليوم،كل طرف منهم يحاول انتزاع الحكم لصالحه لكنه لايحاول انتزاع روح خصمه، واستئصال شئفته،لأنهم يدركون مخاطر الصراع الاجتماعي،لأن الصراع السياسي يزول بزول أسبابه،بينما الصراع الاجتماعي لاينتهي إلا بفناء الجنس أو العرق أو المذهب؛وهذا لم يتحقق لأشد النظم استبدادًا وتطرفًا في أي بقعة من العالم.
وإذا عدنا جنوبًا سنجد العكس أستلمت الجبهة القومية الحكم بعد الاستقلال؛فكان أول ما أقدمت عليه هو إدعاء الوصاية على الثورة والحكم والشعب،وكل من خرج عن محدادتها وأهدافها جردته من حق المواطنة، والنضال، والحكم ،لينتهي الحال بخصومها أما معلقين على أعواد المشانق،أو منفيين في الخارج تطارد اللعنات أحيائهم وأمواتهم .
أفرزت هذه الحقبة تراكمات خطيرة على المجتمع؛بدأت حين لم يستوعب الحكام الجدد الخصوصية الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة قبل الثورة،فصهروا (٢٣) كيانًا مابين سلطنة ومشيخة وولاية بالإضافة إلى حضرموت والمهرة ومستعمرة عدن،كانت كلها تعيش في وضع أشبه بالحكم الذات،فقامت بصهرها في بوتقة واحدة،فلا طوروا هذه النماذج ونقلوها من حالة الجمود والبدائية إلى طور الدولة الحديثة ،ولا تركوا لها هامشًا للتعبَّر عن نفسها.
خلق هذا الصهر القسري حالة من الاصطفاف المناطقي في النظام الواحد،عند شعور أي مكون اجتماعي،أو جهوي بالأقصى والتهميش سوى على مستوى هرم الحكم،أو في إطارات التقسيم الاداري للمحافظة الواحدة.
لذا ظل الجنوب طوال عهد الثورة بيئة طاردة للعمل الحزبي على أسس مدنية،تقوم على قاعدة المصالح،
والدليل على ذلك تجربة الحزب الإشتراكي التي كان المفترض أنها فكرة أممية عابرة لحدود الجغرافيا والدين واللغة،ومع ذلك كان خلافهم خلافا مناطقيا، ولم يكن خلافًا ايدلوجيًا،أو لتباين في وجهات النظر حول طريقة الحكم وأن حاولوا التبرير بمثل هذه الأسباب .
ظلت نزعة الأنا المناطقي هي المسيطرة على التفكير السياسي عند كل التيارات،تتخذ من الوطن والمبادئ والمظلومية تقية للوصول إلى أهدافها الخاصة ،لذا تتوحد عند المغرم ،ثم يعود الصراع عند المغنم .
لذا فإن الخروج من هذه الشرنقة يبدأ بالاعتراف بخصوصيات كل مكون ،وعدم القفز عليها تحت أي مبرر،فالتعامل مع الواقع كما هو خير من التبرير للخروج عليها تحت أي ذريعة.
ثم الانطلاق للخطوة التي تليها وهي تجميع هذه الفسيفساء الاجتماعية في مكونات مدنية تنطلق من الخاص إلى العام وليس العكس؛فيُعطي كل مكون اجتماعي،أو منطقة إدارة شؤونها بنفسها تحت سقف هرم جامع يقوم على أساس التمثيل النسبي، وتمارس نشاطها السياسي وفقا لتحالفات سياسية مدنية على أساس المصلحة والمنفعة العقلانية،وليس على أسس العاطفة الانفعالية، فالنبي عليه الصلاة والسلام قَدَمَ إلى بيئة قبلية كان الصراع لايزال مسيطرا على أفراد هذه البيئة،فبدأ برابط المصلحة والمنفعة،فأخى بين المهاجرين والأنصار فانتقل بهم من دائرة التأثير المعنوي(العقيدة) إلى واقع التأثير(المادي) المصلحة،فالمادة كما يقول كارل ماركس وراء كل صراعات التاريخ .
لذا نجد شعوبًا يناهز تعدادها المليار فيها أديان مختلفة،وعرقيات متعددة ،ومذاهب متعددة أيضا جمعتها المصالح ؛فحققت السلم الاجتماعي،والتطور الاقتصادي، وعاش الإنسان في كنف هذه المجتمعات محفوظ الحقوق مصان والكرامة.