حرب الباريزة

سئل الفريق أول صلاح المحرزي قائد القوات المصرية أبان حرب الجمهوريين والملكيين في ستينيات القرن الماضي في اليمن ؛ ماهو السبب الذي أطال أمد الحرب بين الجمهوريين والملكيين لما يقارب من سبعة أعوام ؟
فأجاب إجابة مقتضبة ، تبدو ساخرة في ظاهرها ، عميقة في مدلولها ، تنم عن إلمام ودراية بأبعاد هذه الحرب السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، فقال بلهجته المصرية : ( عاوز تعرف السبب الحقيقي الذي أطال أمد الحرب بين الملكيين والجمهوريين ؟ قال : محاوره نعم ، قال : كان في اليمن باريزة متداولة شكلها حلو أوي - يقصد الريال الفرنسي - فكنا نعطي القبيلي باريزة فيعطينا إحداثيات صحيح عن أماكن وتحركات الملكيين ، فيأتي الملكيون في المساء فيعطونه باريزتين فيعطيهم إحداثيات صحيحة عن أماكن وتحركات قوات الجمهوريين ، فظل القبيلي شغالا لمدة سبع سنوات متنقلا في الصباح جمهوريا ، وفي المساء ملكيا .

ثقافة الباريزة ثقافة معقدة ، ساهمت في تشكيلها جملة من الأسباب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، تتاقض مع بعضها في أحيان كثيرة ، وتجتمع مع بعضها في حين واحد فقط وهو حين ( العوز والحاجة ) وليس كما يفسره بعض المتشدقين ، والمتفيهقين ، حين يعزون هذا إلى الجهل فقط ، لأن قدرة الجهل في توجيه السلوك تكاد محدودة ، بخلاف صوت المعدة الذي يعلو في أكثر الأحيان على صوت الضمير الذي يعد أخر قلاع حصون الإنسانية .

حين تلتحم جيوش المشاريع السياسية ، ويعلو غبارها في ميادين الوغي العبثية ، وحين يسعر المسعرون حرائقها ، لايبحثون سوى عن وقودها فقط ، أما بقية لوازمها فهي في متناولهم منذ إن وطئت مقاعدهم كراسي الحكم ، فقد أورثتهم السنون الطويلة المال ومن أمتلك المال - كما يقولون - أمتلك القرار ، ولا أقصد هنا القرار الذي يدير حياة الناس ، ويسيير شؤونهم المختلفة ، بل يتعدى ذلك إلى حياتهم وموتهم ، ولايفهم من قولي ( حياتهم وموتهم ) قدرة هؤلاء على إحياء الناس إماتتهم - معاذ الله - فهذا صنيع خص الله به نفسه فقط ، ولكن قدرة هؤلاء تأتي من خلال التحكم في الأسباب الموضوعية التي تؤدي بالمرئ إلى اختيار الموت عن رض وقناعة ، فيسير بقدميه ليلقى مهلكه ومصرعة .

حين تتصارع الأمعاء الخاوية ، حتى يسمع صراخها بقية أعضاء الجسد ؛ تولد خيارات عجيبة ، وخارقة ، وأحيانا مستحيلة ، فحين حاصرت الحرائق التي أشعلها السياسيون الانتهازيون ، السواد الأعظم من الناس ، لم يجدوا إلا المرور على جسر حممها بالرغم من احتمال نسبة الموت المحققة إلى أعلى درجاتها في حين لا يسجل منسوب السلامة إي نسبة تذكر، مرددين قول الشاعر :
إذا لم يكن إلا الإسنة مركبا فما حيلت المضطر إلا ركوبها

فيتهافت الناس على نار الحرب التي أوقدها السياسيون الانتهازيون كما يتهافت الفراش على الضوء ، وكلما خف سعيرها التفت مسعروها إلى أكوام الأموال التي التهموها من عرق ودم المتهافتين على السعير ؛ القوا بضع برايز وسط الجموع المتهافتة على السعير حتى يتدافعوا عليها لتزاد السعير لظا وتوقدا ، في مشهد يشبه إلى حد كبير مافعله نيرون عندما احرق عاصمة ملكه ، وانتحى جانب مرتفعا منها ، وأخذ يضرب على أوتار قيثارته وكلما زادت النيران توهجا أزداد نشوة وضربا على أوتارها .

لابد من سد باب المعدة المؤدي إلى الضمير ، فهي حارس غير مؤتمن على أخر قلاع الإنسانية .