فاروق يوسف يكتب:
رفيق الكامل الطليعي العائد إلى تقاليد العاطفة
قبل سنوات ذكرت اسمه أمام إحدى الفنانات التونسيات فشهقتْ إعجابا بذائقتي الجمالية. اكتشفتُ في ما بعد أنه كان قد درّس تلك الفنانة يوم كانت طالبة فن. قالت عنه “يمكنه أن يكون معلما فنانا، وفي الوقت نفسه فنانا- معلما”.
هو في حاليه، الشخص ذاته، الحريص على تقاليد الحرفة من غير أن يكون تقليديا. الخيالي الذي تتنفس أعماله هواء واقعيا. العميق في ثقافته الفنية من غير أن تقف تلك الثقافة في طريق شعوره بخفة الكائنات والأشكال التي يرسمها.
كما لو أن أحدا لم يسبقه إلى التجريد، كان تجريديا بعمق. في المقابل فإنه اعتمد الأسلوب التشخيصي، كما لو أنه كان تشخيصيا دائما. أما حين لجأ إلى تقنية اللصق (الكولاج)، فإنه كان يبحث عن ظل فنان سواه. فنان يرسم بيديه ليرى العالم بطريقة مختلفة عن الطريقة التي اعتاد أن يراه من خلالها.
تنقل بين التجريد والتشخيص وكان يخطط لولادة رسم جديد في تونس. رسم لن يكون خاضعا لشروط جماعة مدرسة تونس، غير أنه لم ينكر القيمة الفنية والتاريخية لأعمال عدد من أفراد تلك الجماعة التي صارت اليوم في ذمة التاريخ.
رفيق الكامل كان طليعيا ولم يكن متمرّدا بطريقة استفزازية تنطوي على شيء من الاستعراض الذي كان ضروريا في لحظة ما من لحظات التحول.
حين ظهر كان النقيض لنجيب بلخوجة، ابن جيله ورفيقه في الدعوة إلى التحديث والخروج بالرسم في تونس من عصر المفاهيم الاستشراقية التي ركزت على مشاهد الحياة اليومية.
وإذا ما كان بلخوجة ثوريا صاخبا في تعامله مع القيم الفنية التي كرستها جماعة “مدرسة تونس″، فإن الكامل قد رفض تلك القيم من غير أن ينفي اعترافه بالقيمة الفنية التي انطوت عليها أعمال عدد من أفراد تلك الجماعة. أولئك الفنانون كانوا من وجهة نظره قد أسدوا فضلا كبيرا على التاريخ الفني من جهة التأسيس وإرساء التقاليد الفنية.
رفيق الكامل هو نموذج الفنان المتمرّد الذي ينظر بعين الاحترام إلى تجارب الفنانين الذين سبقوه.
ولد الكامل في تونس عام 1944. عام 1967 تخرّج من مدرسة الفنون الجميلة بتونس. بعدها التحق بالمدرسة العليا للفنون الزخرفية بباريس وتخرّج منها عام 1970. أثناء وجوده في باريس التحق بورشة الفنان الفرنسي ديبيار. بعد عودته إلى باريس عمل مدرسا للفن في المعهد التكنولوجي للفن والهندسة المعمارية والتعمير حتى عام 2005.
عام 1973 أسس مع محمود السهيلي ورضا عبدالله وعدد آخر من الفنانين قاعة “ارتسام” وأقام معرضين شخصيين فيها عام 1976 وعام 1981. وكان الفنان قد أقام معرضا عام 1967 برواق يحيى. كما أقام الكامل معارض في باريس وميونيخ ومدن عالمية أخرى. صدر عنه كتاب بعنوان “رفيق الكامل” كتبه زبير الأصرم.
تجربة “ارتسام” يمكنها أن تلخص حكاية التمرد الطليعي على “مدرسة تونس″ التي كان الفنان عبدالعزيز القرجي يقودها يومها. لقد تجمع عدد من الفنانين الشباب وقرروا أن يعلنوا الانقلاب على الوصاية التي كانت تمارسها مدرسة تونس وهي وصاية رسمية بحيث كانت كل الطرق مسدودة. لم يكن العرض ممكنا خارج تلك الوصاية. وهو ما دفع الفنانين الذين رفضوا تلك الوصاية إلى ابتكار فضاء جديد يقع خارج الفضاءات التي تتحكم بها مدرسة تونس. فكانت قاعة “ارتسام” بمثابة مشهد فني نقيض للمشهد الفني السائد. من خلاله نجح أولئك في عرض تجاربهم الفنية الجديدة.
لقد مثلت قاعة “ارتسام” بعروضها الفنية نقطة تحوّل في الحياة التشكيلية التونسية. بحيث صارت مقياسا لما قبلها وما بعدها. وقبل أن يعتزل الحياة العامة ليقيم في مرسمه بضاحية المرسى القريبة من العاصمة كان الكامل قد ترك أثرا عميقا في الحياة الفنية، سواء من خلال عروضه الفنية أو من خلال قيامه بتدريس الفن.
أبقى الكامل الأبواب مفتوحة على مدرسة تونس ولم يغلقها كما فعل الفنان نجيب بلخوجة. يومها وجد في احترامه لموهبة الزبير التركي ذريعة لما فعل، وكان محقا. غير أن ما كان يفكر فيه، وهو التجريدي، شيء يقع خارج دائرة ذلك الاحترام. كان الكامل يخفي ميلا داخليا إلى القيم الجمالية التي عملت مدرسة تونس على تكريسها.
الرسام الذي بدأ حياته الفنية معجبا بتجربة بابلو بيكاسو ولم يقلده، بل كان يتحاشاه دائما وكان يمعن في التماهي مع معطيات الفن الغربي، كانت لديه رغبة في أن يكون فنانا محليا. رسام مشاهد محلية. وهو ما أنجزه حين تحرر من شبكة العلاقات التي كانت تربطه بالفنانين المتمردين. لقد عاد إلى فرديته فصار يرى فنه في سياق سيرته الشخصية.
قد يكون صادما أن الكامل، وهو الذي عُرف بتجريده الرائع، رسم كما لو أنه كان يحاول إحياء التقاليد الفنية التي كرستها مدرسة تونس. تلك محاولة لا تعيد الاعتبار إلى مدرسة تونس التي لا حقتها الشبهات فحسب، بل إنها أيضا تنطوي على اعتراف نزيه بأن الثورة على تلك الجماعة قد حطمت الأصنام، ولم يعد هناك شيء مقدّس، غير أن هناك قيما جمالية كانت لا تزال محطّ احترام.
رفيق الكامل كان جريئا في ذلك الإعلان المبطن.
لم تكن مدرسة تونس يومها لتخيف أحدا. لقد انتهت وصايتها. غير أن رفيق الكامل كان منصفا لها من خلال عودته إلى نزعته الحقيقية. هل خان نفسه حين غادر المبادئ التي أقيمت على أساسها قاعة “ارتسام”؟ أعتقد أن حرية الفنان أكبر من أن تضعف أمام الخيانة.
ذكرتني بعض أعمال الكامل برسوم عمار فرحات. وهو ما دفعني إلى التفكير في أنه كان قد خطط بطريقة واعية لكي يكون جزءا من نسيج الفن الاجتماعي الذي كان سائدا قبل الانقلاب على مدرسة تونس. لقد رسم المدينة كما لو أنه يعدها بمستقبل مختلف. لم يكن رساما أصوليا غير أنه في الوقت نفسه كان ينظر إلى حرفة مَن سبقوه بشيء من عظيم الإجلال.
أحيانا ينظر البعض من المتابعين للفن في تونس إلى رسوم الكامل الواقعية بشيء من الحسرة، بسبب شعورهم بأنهم خسروا رساما كبيرا. غير أن الفنان وهو القابض على جمرة تحولاته يدرك جيدا أن ما فعله إنما يشكل جزءا من تركيبته الوجودية. يحق له أن يكون تونسيا بالطريقة التي يراها مناسبة له.
إنه اليوم في عزلته يتأمل حياته كما لو أنها نوع من الذكرى. لذلك صار يرسم ما يراه مناسبا ليكون جزءا من الذكرى. وهو إذ يضع خياله في خدمة مشاهد مستعادة فإنه يفتح أمامنا كتاب سيرته. وهي سيرة رسام شعر دائما بأهمية أن يكون للحرفة خيال، وأن لا تقع الموهبة ضحية أوهام ثورية.
لقد صنع الكامل درسه الأكاديمي مازجا طليعيته باعترافه بضرورة أن يتمّ احترام القيم الفنية التي ثار عليها. إنه يحترم تلك القيم من غير أن يقدّسها. وهو ما دفعه إلى العودة إليها بخفة. هناك شيء ما في تلك القيم يشدّه إلى تونسه التي يحب أن يراها بعينيه. درس رفيق الكامل يكمن في وفائه لتجربة الرسم بعينين تونسيتين.