سعد القرش يكتب:

روسيا وأزمة الاتفاق النووي الإيراني

يحلو لمستشرقين عرب، يتفادون الخوض في قضايا بلادهم ويجبُنون عن الهمس بشؤون بلاد يأكلون فيها عيشا وما هو أكثر من العيش، استسهال إهانة الشعب المصري وتجاهل إرادته الرافضة لحكم الإخوان، بعد التجربة وليس من حيث المبدأ، بصرف النظر عن المآلات الحالية. فيستدعي هؤلاء المستشرقون كلاما مسطحا عنوانه “الدبابة”، ويستدعون بسذاجة تهمل القراءة الموضوعية للمشهد محاولة انقلاب الجيش في تركيا، في 15 يوليو 2016 وكيف تصدى لها الشعب، فعاش “معززا مكرما ويمارس كل حقوقه الديمقراطية”، وحصاد تفويض المصريين للجيش “ظلما وألما وقهرا”. أترك ما للأتراك للأتراك، ومن قلب المشهد المصري أتأمل سبعة أمور:

أولا: التفويض الشعبي يفرض على المستشرق، وعلى من ينوي العمل مستشرقا في أوقات الفراغ بعد انتهاء الدوام، احترام هذه الإرادة في تلك اللحظة على الأقل، كما احترم هذا المستشرق نفسه خيارا سابقا حين أُعلن فوز رئيس إخواني، عام 2012، بنسبة 51 بالمئة، وأكثر من نصف هذه الأصوات كانت نكاية بأحمد شفيق ممثل دولة حسني مبارك المنافس لمحمد مرسي. وكان الكاتب الفلسطيني الراحل سلامة كيلة يعجب لهؤلاء ويقول لي إنه شاهد على 30 يونيو 2013، بحكم إقامته في القاهرة. وأثناء رئاستي لمجلة الهلال نشرت له كتابين في سلسلة “كتاب الهلال”، أولهما “زمن الثورة” في مايو 2015، واعتبر ما جرى في 30 يونيو موجة ثورية تلحق بما سبقها وسيليها ما يليها، وأن ما شهدته دول عربية بداية من عام 2011 “هو مفتتح مسار ثوري، قد يطول وقد يقصر، لكنه مستمر”، وأن “نهاية حكم الإخوان في مصر تعني نهاية الخلافة… لأنها لا تملك حلولا لمشكلات راهنة ومستعصية… هذا الأمر سوف يدفع إلى الإطاحة بحركة النهضة في تونس، وبحركة حماس في غزة، وفي سوريا يبدو أن دور الإخوان انتهى… لحظة المجد انتهت، وقمة الغرور أودت بالجماعة والشعب لا يزال يقاتل من أجل تحقيق التغيير الذي يحل مشكلاته، والعسكر لا يزالون يلعبون اللعبة ذاتها”.

ثانيا: هذا اللغط يتجاهل أسباب الاحتماء بالدبابة؛ فالحشود الرافضة للإخوان كانت تتسلح بالأمل وتنتظر الخلاص السلمي، وتجهل المصائر وهي تواجه إرهابا حقيقيا يتغذى على فائض كراهية لا تكفّ فضائيات اليمين الديني عن إطلاقها. وكان خطاب رموز الإخوان والسلفيين والجهاديين والقتلة السابقين صريحا في تهديد من سيخرجون في 30 يونيو بتحمل المسؤولية عما سيجري لهم، وأن “جيش محمد” سيسحق الخارجين على “الشرعية”، ولو زاد الضحايا على عشرة آلاف، وأن الحاضنة السلفية لحكم الإخوان ستبدأ في 30 يونيو “استراتيجية هجومية… مات من مات، وقتل من قتل” في عودتهم إلى ميدان التحرير الذي طردوا منه بعد الإعلان الدستوري في 22 نوفمبر 2012. وفي التسويغ “الشرعي” لقتل متوقع للمتظاهرين، ذهبوا مباشرة إلى غزوة بدر، واستخرجوا من غبار المعركة طمأنة النبي للصحابة “قتلاهم في النار، وقتلانا في الجنة”. واعتبروا 30 يونيو 2013 حربا مقدسة بين الإسلام والكفر، وليست صراعا سياسيا شهدت مصر مثله حين استمرأ الملك فؤاد تعطيل الدستور وحلّ البرلمان المنتخب، وإقالة حكومة الأغلبية التي يستبدل بها حكومة حزب ملكي تصدر دستورا انقلابيا. ومارس ابنه الملك فاروق تلك الدكتاتورية أيضا، من دون أن يدعو مصطفى النحاس عموم الشعب إلى استعادة الشرعية بالسلاح، استنادا إلى وعي وطني بأن الانتخابات ستعيده إلى الحكم.

ثالثا: في السلوك الدكتاتوري لا فرق كبيرا بين دكتاتور عسكري وآخر مدني، والبعض من عتاة السفاحين لم ينخرط يوما في الجيش، ولو تباهى بارتداء الزي العسكري في بعض المناسبات.

رابعا: يغيب عن وعي المستشرقين العرب أن الشعب رفض حظر التجول مساء “جمعة الغضب”، 28 يناير 2011، حين اختفت الشرطة من عموم البلاد. وبدلا من الاستجابة لقرار حظر التجول، نزل الناس في البرد لالتقاط صور تذكارية مع “الدبابة”، ساخرين من قرار أصدرته سلطة فقدت شرعيتها. ولكن الناس أنفسهم، أمام خطر يجعلهم كفارا “قتلاهم في النار”، احترموا قرار حظر التجول، ولجأوا إلى “الدبابة”.

خامسا (وهو معكوس ومرآة للعنصر السابق): الشعب هو الذي حمى الجيش في 30 يونيو 2013، ففي حرب المدن لا تصمد الجيوش غير المؤهلة لأعمال الشرطة، وهي مجرد آلات قتل وتدمير في مواجهات ساحاتها أكبر من الميادين. ويستطيع غاضب إعطاب دبابة يعجز طاقمها عن تعقبه بمدفع لن تفلح نيرانه في اصطياد شخص. هكذا يكون الجيش مدينا بالكثير لحاضنته الشعبية بعد 30 يونيو 2013، أيا كانت المصائر.

سادسا: في قضية المصائر التراجيدية يسهل الانتقال من غزوة بدر إلى فتح مكة، حيث دخل أبوسفيان وزوجته، آكلة كبد حمزة، وابنهما معاوية دينا لم يتوقفوا عن حرب رسوله. ثم تمكن معاوية، بذكاء سياسي مفرط يضاف إليه دهاء عمرو بن العاص، من الاستيلاء على الحكم. ومن العبث التاريخي تكفير أحفاد النبي، وأسر الطالبيين وقتلهم والتمثيل بجثثهم، وقد سمح عبيدالله بن زياد بإدخال السبايا والرؤوس إلى قصر الإمارة، وعبث بقضيب في ثنايا الإمام الحسين عليه السلام وقال لابنه علي “يوم بيوم بدر”. ودعا الناس إلى مسجد الكوفة، وصعد المنبر وخطب قائلا “الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، وبصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب وشيعته”. ثم أعاد يزيد بن معاوية هذا المشهد فنكت ثغر الإمام الشهيد بقضيب، وقال “يوم بيوم بدر”. فهل يعني هذا المصير المأساوي أن النبوة كانت مؤامرة أموية دبّرها أبوسفيان ومعاوية أم أن قدرات الدهاة أكبر من نبل المقاصد؟

سابعا: المرتزقون بسباب المصريين بعد 30 يونيو لا يعيدون النظر في ما أمروا به، ولو استشاروا عقولهم لافترضوا أن الإخوان مهدوا الطريق لـ30 يونيو، ثم دعموا صعود عبدالفتاح السيسي، وهم الآن سبب مهم للاستبداد. ففي عام واحد نجح مرسي وجماعته وحزبه في ما فشل فيه احتلال متصل دام أكثر من 33 قرنا، منذ غزو الإسكندر عام 332 قبل الميلاد. ولم يتح لأي احتلال من العبقرية ما يمكنه من استعداء النقابات والجيش والشرطة والقضاء والأزهر والكنيسة

والإعلام والاتحادات الطلابية والنخب الثقافية والسياسية. وليت للاستشراق عينا.