علي قاسم يكتب:

بورقيبة ثلاثة.. مدغشقر صفر

الربيع العربي ترك الفوضى والخراب في كل بلد دخلها، ولكن هذا لم يحدث في تونس، البلد الذي شهد انطلاقة هذا الربيع.

لم تُسفكْ في تونس الدماء، ولم تهدم البنية التحتية، ولم تدمر المدن، ولم تشهد البلاد موجات نزوح وهجرة، ولم تنقطع الكهرباء والماء والغاز عن البيوت، ولم تشهد الأسواق انفلاتا في الأسعار، التضخم لم يكن خارج نطاق المستويات العالمية، والدينار التونسي، رغم تراجعه أمام الدولار واليورو، بقي نسبيا في نطاق المعقول.

انظروا حال الدول التي مر فيها أو على أطرافها الربيع العربي، لتكتشفوا أن هناك لغزا في الأمر. فما هو؟

ما حدث الخميس على أرضية إستاد السلام في مصر يفسر الأمر تماما. لم يتوقع أحد فوز المنتخب التونسي، الذي قدم مباريات باهتة وترشح إلى دور الثمانية في بطولة كأس الأمم الأفريقية بثلاثة تعادلات، أن يقصي منتخب مدغشقر بالثلاثة، وهو المنتخب الذي تمكن من هزيمة المنتخب النيجيري، وتنبأ له الجميع بالفوز.

الربيع العربي لم يهزم تونس، لنفس الأسباب التي أدت إلى فوز المنتخب التونسي وتأهله لدور المربع الذهبي؛ الشخصية التونسية.

في تونس، التي يردد فيها الجميع عبارة “نحن التوانسة”، يختلف الناس في ما بينهم، ويتكاسلون، لكنهم لا يساومون على ولائهم لتونس، وعلى كبريائهم، يهاجرون مضطرين، ليعودوا إلى تونس لاحقا، يبنون فيها منزلا، أو يقيمون مشروعا صغيرا.

عندما فشلت الحكومات المتعاقبة على تونس، بعد الثورة، في إدارة شؤون البلاد والعباد، لم يركن التونسيون إلى الفوضى، وكأني بهم يطبقون ميثاقا مكتوبا بينهم، على أن يحافظوا ويصونوا بلادهم، مهما جارت عليهم.

هذا الميثاق، رغم أنه غير مكتوب ولم يناقشه التونسيون في ما بينهم، هو ما وحد التونسيين، في الأيام العصيبة والسنوات العجاف، ورغم كل الانتقادات لم يصل الأمر إلى أن يقف التونسيون ضد مؤسساتهم العامة، الاقتصادية منها والأمنية.

التونسي يسمح لنفسه وللآخرين بتوجيه الانتقاد للسلبيات والنواقص، التي تعاني منها تلك المؤسسات، ولكن لا يسمح أبدا بالإساءة إليها.

الميثاق نفسه طبقه لاعبو المنتخب التونسي، عندما فشل المدرب والطاقم الفني في إدارة شؤون المنتخب، وفي الوقت الذي بدا فيه المدرب يائسا وخائفا وفاقدا الأمل، تلبست اللاعبين روح قتالية بطولية، وقرروا أنهم لن يهزموا، لأن هزيمتهم تعني هزيمة لتونس.

لم يجد المدرب ما يعمله بعد فوز المنتخب إلا أن يتجرع الماء بنهم ليستفيق من الصدمة. وصلته الرسالة: سنقوم نحن بالمهمة التي عجزت أنت عن القيام بها. نحن هنا لننتصر، وسننتصر. وخرج المنتخب منتصرا، وهزم المدرب.

نفس الرسالة وجهها الشارع التونسي للحكومات المتعاقبة.. تونس ستنتصر ولن تهزم.

ما من شك أن التاريخ التونسي، القديم والحديث والمعاصر، كما يقول الدكتور منصف وناس، قد أدى دورا مهما في تشكيل مضامين الشخصية التونسية، التي جمعت بين القرطاجيين والرومان والوندال والأندلسيين والأتراك والفرنسيين والإيطاليين والمالطيين، وهو ما أثر على نحت ملامحها، التي من أهمها الانفتاح والمرونة والقدرة على التكيف.

هناك عامل آخر، لا يوليه أهل الاختصاص اهتمامهم، لحداثته، هو فترة حكم الحبيب بورقيبة، التي ساهمت إلى حد كبير في تشكيل الشخصية التونسية، أحببنا ذلك أم كرهناه.

أي مدرب مبتدئ يعرف أن التهيئة الجسدية والمهارات الفردية لن تحقق النجاح، إن لم يرافقها استعداد نفسي للفوز مبني على الثقة بالنفس.

كان بورقيبة مدربا جيدا يعرف كيف يغرس الثقة في صفوف التونسيين.. وعندما فشل آلان جيريس، مدرب المنتخب، في تلك المهمة، استحضر اللاعبون إرث بورقيبة، فكانت الثقة بالنفس سلاحهم للفوز بالمباراة. تماما مثلما استحضر التونسيون نفس الإرث للحفاظ على مؤسسات الدولة وهيبتها.