علي قاسم يكتب:
الإمارات: قصة تحوّل من الهامش إلى المركز
في عام 1989، كانت زيارتي الأولى لدبي بحثاً عن فرصة عمل، كانت الإمارات العربية المتحدة بلداً شاباً يبحث عن مكان له في ظل عواصم عربية عريقة تُعتبر مراكز الحضارة والاقتصاد في المنطقة. دبي كانت مدينة صغيرة تنبض بالحيوية التجارية، تعتمد على ميناء راشد وسوق الذهب في ديرة، مع بنية تحتية محدودة ومبانٍ متواضعة. أبوظبي، العاصمة الهادئة، كانت تركز على استغلال عوائد النفط لبناء مؤسسات الدولة ولم تكن قد تحولت بعد إلى مركز عالمي للاستثمار. الإمارات الأخرى مثل الشارقة، عجمان، رأس الخيمة، والفجيرة كانت تحافظ على طابعها التقليدي، مع اقتصاد يعتمد على الصيد، الزراعة، والتجارة المحلية. في المقابل، كانت عواصم مثل بيروت، دمشق، بغداد، القاهرة، طرابلس، الجزائر، صنعاء، والخرطوم تتمتع بمكانة تاريخية وثقافية هائلة، كمراكز للفكر، الإعلام، والسياسة العربية. بيروت كانت “باريس الشرق” رغم ندوب الحرب، دمشق عاصمة التاريخ السوري، بغداد مهد الحضارة العباسية، والقاهرة قلب العالم العربي الثقافي.
لكن بعد أكثر من ثلاثة عقود، انقلب المشهد. الإمارات أصبحت قوة اقتصادية عالمية، مع ناتج محلي إجمالي بلغ 509 مليار دولار في 2023، ونمو سنوي يصل إلى 3.62 في المئة، مقارنة بنمو ضعيف أو سلبي في العديد من الدول العربية الأخرى. دبي تحولت إلى مدينة عالمية تضم برج خليفة، أكبر مراكز التسوق، ومطاراً يخدم ملايين المسافرين سنوياً، بينما أبوظبي أصبحت مركزاً للطاقة المستدامة والثقافة مع متحف اللوفر وجزيرة السعديات. في الوقت نفسه، تراجعت تلك العواصم: بيروت تعاني انهياراً اقتصادياً مع ديون تصل إلى 170 في المئة من الناتج المحلي، دمشق مدمرة بفعل الحرب مع نمو سلبي بلغ -3.7 في المئة في سنوات الصراع، بغداد تواجه فساداً وانقسامات طائفية، والقاهرة تكافح التكدس والفقر رغم نمو يقارب 4 في المئة لكنه غير مستدام. هذا التحول ليس وليد الصدفة، بل نتيجة خيارات جريئة، من بينها رفض الإسلام السياسي ودعم السلام، وهما الموقفان اللذان يتعرضان اليوم لهجمات شعبوية واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي. في هذا المقال، أدافع عن الإمارات من خلال سرد قصة نجاحها، مقابل فشل عواصم عربية كبرى سقطت ضحية الصراعات والتسييس الديني.
بدأ النجاح الإماراتي برؤية جريئة بقيادة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسس الاتحاد ركزت على بناء دولة اتحادية مستقرة مع استغلال عوائد النفط للتنمية المستدامة
قبل أن أتابع أريد أن أخرج عن النص قليلاً لأوضح أن مكوثي في الإمارات استمر 3 سنوات فقط، عملت خلالها في مجلة “الأزمنة العربية”، وكان يرأس تحريرها محمد عبيد غباش، وهو شخصية إماراتية بارزة، عمل كمستشار في المكتب الدائم للإمارات لدى الأمم المتحدة.
غادرت الإمارات عام 1993، متوجهاً إلى لندن خالي الوفاض لمتابعة إصدار المجلة من هناك، بعد توقفها في الإمارات لأسباب سياسية. مشروع إعادة الإصدار من لندن فشل لأسباب مالية. وعلاقتي مع الإمارات منذ ذلك التاريخ اقتصرت على زيارتين شخصيتين.
الاستطراد كان مهماً، حتى لا يذهب الظن بالبعض أنني ما زلت أعيش في الإمارات. دفاعي عن الإمارات شهادة لا بد من قولها، وصادرة عن قناعة ذاتية لا علاقة لها بأية مكاسب.
بدأ النجاح الإماراتي برؤية جريئة. تحت قيادة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسس الاتحاد، ركزت الإمارات على بناء دولة اتحادية مستقرة، مع استغلال عوائد النفط للتنمية المستدامة. في الثمانينات والتسعينات، وضعت خططاً طويلة الأمد مثل إستراتيجية التنويع الاقتصادي، التي جعلت 75 في المئة من الاقتصاد غير نفطي بحلول 2023، مع التركيز على السياحة، الخدمات المالية، والتكنولوجيا. دبي، تحت قيادة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، أصبحت نموذجاً للابتكار، مع إنشاء مناطق حرة مثل جبل علي في 1985، التي جذبت استثمارات أجنبية بلغت 160 مليار دولار بحلول 2025. أبوظبي ركزت على الاستدامة، مع صندوق الثروة السيادي الذي يدير أصولاً تفوق 1.5 تريليون دولار، مستثمراً في الطاقة المتجددة مثل مشروع “مصدر” الذي يهدف إلى خفض الانبعاثات بنسبة 22 في المئة بحلول 2030. هذا النجاح يرجع جزئياً إلى رفض الإسلام السياسي، الذي يُعتبر من قبل الإمارات منظمة إرهابية مثل الإخوان، ويأتي من تجربة تاريخية: هذه الجماعات ساهمت في الفوضى في دول مثل مصر وسوريا والجزائر واليمن والعراق ولبنان وفي غزة… مما أدى إلى دمار اقتصادي وإنساني.
الهجمات الشعبوية على وسائل التواصل، التي غالباً ما تنطلق من حسابات مرتبطة بجماعات الإسلام السياسي وتفرعاتها، تتهم الإمارات بـ”الخيانة” لدعمها اتفاقيات السلام مثل اتفاقيات إبراهيم، ورفضها لمشروع الإسلام السياسي الذي يسعى إلى تسييس الدين لأغراض سلطوية. على منصات مثل إكس، تتكرر الاتهامات بأن الإمارات “تدعم الصهيونية” أو “تحارب الإسلام”، كما في منشورات حديثة تتهم أبوظبي بدعم قوى معادية للإخوان في السودان أو رفضها للإرهاب الطائفي. هذه الهجمات ليست تعبيرات عفوية، بل حملات منظمة تهدف إلى تشويه صورة دولة نجحت في بناء نموذج تنموي استثنائي، بينما فشلت دول أخرى تبنت أو تأثرت بالإسلام السياسي في تحقيق الاستقرار والازدهار.
هل يجب أن نذكر الجميع أن حجم المساعدات الإنسانية التي قدمتها الإمارات العربية المتحدة للفلسطينيين في قطاع غزة، منذ اندلاع الصراع في أكتوبر 2023، وفقاً للبيانات الرسمية والدولية، بلغ حتى نوفمبر 2025 حوالي 2.57 مليار دولار أميركي، مما يجعل الإمارات أكبر المانحين الدوليين لقطاع غزة بنسبة تصل إلى 44 في المئة من إجمالي المساعدات الدولية.
نجاح الإمارات يثبت أن اختيار الحلول السلمية ورفض التسييس الديني هما مفتاح الازدهار. بينما فشلت عواصم عربية بسبب الصراعات، نجحت الإمارات في بناء دولة حديثة، مستقرة، ومنفتحة
اتفاقيات إبراهيم، التي وقعتها الإمارات مع إسرائيل في 2020، ليست خيانة كما يدعي المهاجمون، بل خطوة جريئة نحو السلام الإقليمي. هذه الاتفاقيات أدت إلى نمو تجاري بلغ 2.5 مليار دولار بحلول 2023، مع استثمارات في التكنولوجيا والطاقة المتجددة. رفض الإسلام السياسي، الذي يُعتبر من قبل الإمارات منظمة إرهابية، يأتي من تجربة تاريخية: هذه الجماعات ساهمت في الفوضى في دول مثل مصر وسوريا، مما أدى إلى دمار اقتصادي وإنساني. الإمارات، بدلاً من ذلك، تبنت نموذجاً قائمًا على التسامح. ساهم في أن تحتل المرتبة 28 عالمياً في مؤشر السلام العالمي 2025، مقارنة بتراجع دول مثل لبنان (المرتبة 143) وسوريا (161).
عامل رئيسي آخر في نجاح الإمارات هو الاستقرار السياسي والأمني. الاتحاد الإماراتي، المؤسس عام 1971، حافظ على وحدته رغم التنوع القبلي، مع نظام حكم يجمع بين التقاليد والحداثة، مما أدى إلى مؤشر حرية اقتصادية مرتفع (المرتبة 17 عالمياً في 2024). هذا الاستقرار جذب استثمارات أجنبية مباشرة بلغت 22.7 مليار دولار في 2023، مقارنة بانخفاض في الدول الأخرى بسبب الاضطرابات. أما في العواصم الأخرى، فقد أدت الصراعات إلى تدمير البنية التحتية: ليبيا انقسمت منذ 2011 بين شرق وغرب، مع تدخلات خارجية أدت إلى خسائر اقتصادية تصل إلى 200 مليار دولار. صنعاء في اليمن غرقت في حرب منذ 2015، مع نمو سلبي بلغ -30 في المئة في بعض السنوات. الخرطوم في السودان شهدت انقلابات متكررة، مع صراع حالي أدى إلى نزوح 10 ملايين شخص وانهيار اقتصادي بنسبة 12 في المئة في 2023.
التنويع الاقتصادي كان مفتاح نجاح الإمارات. بدلاً من الاعتماد الكلي على النفط، الذي شكل 90 في المئة من الاقتصاد في الثمانينيات، انخفض إلى أقل من 30 في المئة اليوم، مع نمو قطاعات مثل السياحة (12 في المئة منGDP) والتكنولوجيا (مع استثمارات في AI تصل إلى 10 مليارات دولار). هذا التنويع أدى إلى نمو GDP من 50 مليار دولار في 1989 إلى أكثر من 500 مليار في 2025، مع GDP للفرد يفوق 43 ألف دولار. في المقابل، اعتمدت الدول الأخرى على موارد محدودة دون تنويع: العراق، رغم احتياطيات نفط هائلة، يعاني فساداً يستهلك 20 في المئة من الميزانية سنوياً. سوريا خسرت 80 في المئة من صناعتها بسبب الحرب. لبنان، الذي كان مركزاً مالياً، انهار بسبب الديون والفساد، مع انخفاض GDP من 55 مليار دولار في 2018 إلى 18 مليار في 2023.
الانفتاح العالمي والاستثمار في الإنسان عززا نجاح الإمارات. الدولة جذبت 9 ملايين وافد، شكلوا 88 في المئة من السكان، مساهمين في الاقتصاد، مع نظام تعليمي يحتل المرتبة 35 عالمياً في PISA 2022. الإمارات أصبحت مركزاً للابتكار، مع استضافة Expo 2020 الذي جذب 24 مليون زائر وأضاف 33 مليار دولار للاقتصاد. أما العواصم الأخرى، فقد انغلقت أو فشلت في الاستثمار: مصر، تعاني بطالة شبابية 30 في المئة بسبب نظام تعليمي متدهور. اليمن والسودان فقدا ملايين الشباب في النزوح، مع تراجع في مؤشرات التنمية البشرية إلى أدنى المستويات.
نجاح الإمارات يثبت أن اختيار الحلول السلمية ورفض التسييس الديني هما مفتاح الازدهار. بينما فشلت عواصم عربية بسبب الصراعات، نجحت الإمارات في بناء دولة حديثة، مستقرة، ومنفتحة. الدفاع عنها ليس واجباً وطنياً فحسب، بل دليلاً على أن الطريق الصحيح هو الذي يؤدي إلى التقدم، لا الفوضى.


