علي قاسم يكتب:

قيس سعيد: قصة نجاح في مسار مليء بالتحديات

ليس بالعقل وحده تُدار الدول. هناك مواقف تتطلب من القيادة تغليب العاطفة على العقل. أحكام العقل قاسية وباردة، يمكن اللجوء إليها في وضع طبيعي مستقر. في المقابل، هناك أوضاع تتطلب ممن هم في موقع المسؤولية تغليب العاطفة على العقل.

هذا ما اختار الرئيس التونسي قيس سعيد أن يلجأ إليه عندما قرر منذ البداية عدم قبول إملاءات صندوق النقد الدولي، الذي وضع ضمن شروط الموافقة على تقديم قرض للحكومة التونسية تقليص عدد الوظائف، عن طريق تسريح عدد من الموظفين، أو عدم توظيف بدلاء لمغادري الخدمة، وتخفيض كتلة الأجور بتقليل الرواتب أو تجميدها، وذلك بهدف تقليل الأعباء المالية على خزينة الدولة، كما يقول الصندوق.

من وجهة نظر خبراء ومحللين اقتصاديين يجيدون قراءة الأرقام وإجراء الحسابات للخروج بالنتائج، تبدو مطالب صندوق النقد موضوعية وعقلانية، إلّا أن التاريخ مليء بالأمثلة على كوارث نجمت عن تحكيم العقل وحده، في وقت نجحت فيه الحلول المبنية على قرارات عاطفية. وقد يكون مفيدا هنا تقديم بعض الأمثلة:

التاريخ الإنساني مليء بقصص كثيرة عن حالات كانت فيها العواطف والقرارات السريعة أكثر فاعلية في إدارة الأزمات من اللجوء إلى التحليل العقلاني البطيء

في بداية الأزمة المالية العالمية عام 2008، اتخذت الحكومات خطوات سريعة غير مخطط لها، مثل عمليات الإنقاذ للشركات الكبرى. وعلى الرغم من الانتقادات بشأن هذه الخطوات، إلا أن تلك الاستجابات العاجلة كانت ضرورية لتفادي انهيار أكبر في النظام المصرفي العالمي.

وما زال العالم يذكر خطاب وينستون تشرشل وعبارة “سنحارب في الشوارع” الشهيرة التي وجهها إلى الشعب البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية. وكان لهذه العبارة وللخطاب المشحون بالعواطف تأثير كبير على الروح المعنوية والتماسك الشعبي في اتخاذ قرارات سريعة مبنية على الإلهام، رغم عدم وجود خطة إستراتيجية واحدة ملموسة في تلك اللحظة.

مثل هذه المواقف تبرز أيضا خلال الكوارث الطبيعية، وبينما تفشل الحكومات أحيانا في إدارة الكوارث، ينجح سكان محليون يتصرفون بسرعة وعفوية وتعاون، بناء على دوافع عاطفية، في إنقاذ الأرواح وتقديم المساعدة.

التاريخ الإنساني مليء بقصص كثيرة عن حالات كانت فيها العواطف والقرارات السريعة أكثر فاعلية في إدارة الأزمات من اللجوء إلى التحليل العقلاني البطيء.

قبل العودة إلى القرارات التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد، قد يكون مفيدا هنا التذكير بسلسلة الاحتجاجات والمظاهرات التي اندلعت في تونس في يناير 1984، وعرفت باسم “ثورة الخبز”، سببها المباشر زيادة أسعار الخبز والمواد الغذائية الأساسية. وكان قرار الزيادة في الأسعار قد اتخذ ضمن إجراءات عقلانية تقشفية فرضتها الحكومة، التي كانت تسعى إلى التعامل مع الأزمات الاقتصادية المتزايدة، بما في ذلك ارتفاع الدين الخارجي والعجز في الميزانية.

رد فعل الزعيم التونسي الراحل الحبيب بورقيبة على تصاعد الاحتجاجات جاء سريعا لا يخلو من العاطفة.

تراجعت الحكومة عن قرار الزيادة في أسعار الخبز والمواد الغذائية الأساسية، وعملت على تعزيز برامج الدعم للمواد الأساسية لمساعدة الأسر ذات الدخل المنخفض في مواجهة صعوبة العيش. اختار الزعيم بورقيبة أن يتجاهل الحل العقلاني ويختار الحل العاطفي.

في نفس الوقت، سعت الحكومة إلى إنشاء قنوات للتواصل مع النقابات والهيئات الاجتماعية بهدف احتواء غضب الشارع والتخفيف من حدة الاحتجاجات.

قد يبدو القرار الذي اتخذه الرئيس سعيد يوم الخميس الماضي بتثبيت 20 ألف مدرس مؤقت في وظائفهم بالمدارس الابتدائية والإعدادية والمعاهد التابعة لوزارة التربية عاطفيا، وهو كذلك في جانب منه، لكنه عقلاني في جانب آخر.

وفقا للمحللين، نجح قيس سعيد في حل أزمة كان استمرارها سيؤدي إلى توتر اجتماعي. كما نجح، وفق نفس المحللين، في سحب البساط من تحت أقدام النقابات والمجموعات السياسية.

الإجراءات، ومن بينها قرار إدماج المعلمين المتعاقدين، صدرت عن قناعة من الرئيس قيس سعيد بحق التونسيين، كل التونسيين، في عيش يصون حقهم في حياة كريمة

الرئاسة التونسية من جانبها، قالت في بيان صادر عنها، إن الرئيس سعيد وقّع أمرا رئاسيا بإدماج 20 ألف معلم متعاقد، وقرر بذلك “غلق ملف المعلمين والأساتذة النواب (المؤقتين) نهائيا بإصداره لأمر يقضي بإدماجهم في المدارس الابتدائية والإعدادية والمعاهد التابعة لوزارة التربية.”

نخطئ إذا قلنا إن الإجراءات التي اتخذها الرئيس سعيد منذ فوزه بعهدة رئاسية ثانية مبنية على العاطفة وحدها؛ إنها قرارات مبنية على مزيج من إحكام العقل والعاطفة؛ العقل للنهوض بالوضع الاقتصادي الصعب، من خلال المحافظة على قيمة الدينار التونسي ومنعه من الانهيار، والسيطرة على القروض والتضخم. والعاطفة للتقليل من معاناة التونسيين والعمل على تأمين فرص عمل تحفظ حقهم في العيش الكريم.

أيضا، سلسلة الإجراءات التي اتخذها الرئيس سعيد لا علاقة لها بسحب البساط من تحت أقدام النقابات ومجموعات سياسية تسعى كما يقول المحللون إلى توظيف المطالب في مزايدات تؤدي في النهاية إلى اضطرابات اجتماعية.

الإجراءات، ومن بينها قرار إدماج المعلمين المتعاقدين، صدرت عن قناعة من الرئيس قيس سعيد بحق التونسيين، كل التونسيين، في عيش يصون حقهم في حياة كريمة.

عمل الرئيس سعيد حثيثا وبعقلانية على مواجهة الفساد الذي استشرى خلال العشرية الماضية، وإحلال الشفافية في جميع المعاملات، ومواجهة البيروقراطية في الدوائر الحكومية، ونجح في تقليص حجم الدين العام. وهي خطوات ستساعد في إنقاذ الاقتصاد التونسي وتشجيع الاستثمار الخارجي.

لكن، عندما يصل الأمر إلى المساس برفع الدعم عن المواد الغذائية والتفويت في المؤسسات العامة وحق التونسيين بالعمل، تصبح العاطفة سيدة الموقف.

إذا كانت إدارة الحكم تتطلب استخدام العقل في 99 في المئة من المواقف، هناك مواقف نادرة تتطلب استخدام العاطفة لصناعة التاريخ.

بانحيازه لـ20 ألف مدرس ومعلم وقتي متعاقد نجح الرئيس قيس سعيد في إغلاق ملف فشل الآخرون في إغلاقه.