علي قاسم يكتب:

الباجي.. رحيل اختارته الأقدار بعناية

الباجي قائد السبسي لم يكن رئيسا عاديا، ولم يحكم تونس في ظرف عادي.. كذلك رحيله، لم يكن في يوم عادي، اختاره الباجي، أو اختارته الأقدار، بعناية، وكأنما به يستجمع قواه ليودعنا، والتونسيون جميعا يحتفلون بعيد الجمهورية.

أراد أن يجعل من رحيله، مثل حياته، مناسبة يتآلف التونسيون حولها. لذلك شكّل خبر وفاته المتوقعة، صدمة لجميع التونسيين.

ومثل ثورة تونس، التي وصفت بالربيع.. كانت فترة رئاسة الباجي ربيعا آخر، استطاع أن يجنب البلاد الكثير من الفخاخ المنصوبة.

كان الباجي أفضل سفير لتونس، فرض على العالم، غربه وشرقه، أن يحترم هذا البلد الصغير، المتواضع الإمكانيات. وبعد غيابه سيعيد التونسيون، ومعهم العالم، اكتشافه، وهم حتما سيشعرون بفداحة الخسارة.

لم يكن الباجي، طيلة فترة رئاسته، يمينيا أو يساريا، أحمر أو أخضر، كما لم يكن، رغم تأسيسه لحزب نداء تونس، ندائيا.. في مراسم التنصيب وعد أن يكون رئيسا لكل التونسيين، ولم يكتف بتحقيق وعده هذا، بل كان أبا للجميع. وكان أرأف على النعاج الضالة، من تلك التي اختارت السير ضمن القطيع.

خوفه على مستقبل تونس والتونسيين، أطال في حياته. وأبى قبل أن يغادر، إلا أن يقول بصمت، ما لم يقله بالكلام: اختلفوا في ما بينكم، ولكن لا تختلفوا على حب تونس، كونوا أخوة، ناصروا بعضكم البعض. أشفق عليكم من التركة التي تركتها لكم، فهي، من الحجم ومن الثقل، ما يكفي لتهز الجبال.

لم يخض الباجي حربا، ولم يشهر سلاحا في وجه أحد، سلاحه كان السير في اتجاه الخصم، ومواجهة “السيئة بالحسنة”.

كان شجاعا عندما مد يده لليسار واليمين، وفرض على الجميع تقديم التنازلات، للالتقاء في منتصف الطريق.

بعد انتهاء مراسم الدفن والتوديع سيهب البعض للبحث عن أخطاء تحسب عليه.. لن يجدوها. ويبحث البعض الآخر عن الحسنات.. ليجدوا فيضا منها.

لم يكن الباجي رجل اقتصاد، ولم يكن رجل أمن.. كان سفيرا لتونس، ورجل علاقات من الطراز الأول. مهد التربة للتونسيين دون استثناء، وكان على الآخرين أن يطرحوا ثمارهم فيها.

غدا يجتمع التونسيون في المقاهي، على فنجان شاي أو قهوة، يرتشفونه بالبطء والتكاسل المعهود فيهم، ومع كل رشفة، يؤكدون لبعضهم أن رحيل الباجي لن يضعفهم، بل على العكس من ذلك، سيزيدهم قوة وصلابة. فهم تعلموا، من الماضي والحاضر، أن الهزيمة كلمة محذوفة من قاموسهم اللغوي، تماما مثلما كانت محذوفة من قاموس الباجي قائد السبسي.

العالم، يشارك التونسيين اليوم حزنهم، ويدعوا معهم “اللهم احمي تونس”.. احمهما من الأصدقاء، قبل أن تحمها من الأعداء. فهزيمتها، هزيمة للمشروع الحضاري، الذي وضعت بذرته الأولى في يوم 17 ديسمبر 2010، تضامنًا مع الشاب محمد البوعزيزي، الذي قام بإضرام النار في جسده، في نفس اليوم، ونجاحها انتصار للمشروع الحضاري.