علي قاسم يكتب:

تعلمنا منك الكثير يا سيادة الرئيس

إثر الإعلان عن وفاة الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، قلت في تأبين كتبته إنّ التونسيين سيعيدون اكتشاف الباجي.. وهذا ما فعله التونسيون.

في جنازة تاريخية، ودّع فيها التونسيون رئيسهم، قالوا بصوت واحد: “سنحبك أكثر”. والإعلام، الذي دأب على انتقاد الرئيس، خرج بعناوين رئيسة، كان أكثرها دلالة ما خطته “الصحافة”، على صفحتها الأولى، “رحيل رئيس.. ميلاد زعيم”.

بحضور ملوك ورؤساء، حوّل التونسيون مراسم التأبين إلى استفتاء عظيم، لم يشهد له التاريخ مثيلا، استفتوا فيه على نصيب المرأة في الميراث، واحترام الدستور، والحرص على قيم العلمانية، والأخلاق الروحانية.. وأهم من ذلك كله، استفتوا على حق الناس بالاختلاف، وصوتوا على الخيار الديمقراطي، دون رجعة.

قبل 16 عاما جئت تونس في أول زيارة لي لمدة أسبوع، وها أنا أمضي فيها عامي السادس عشر، لم آت إليها لاجئا، ولا فارا. وكثيرا ما يوجّه لي سؤال، ماذا يجبرك على العيش فيها، وأنت تحمل جواز سفر بريطاني.

قوي كصخرة، رقيق كجناح فراشة، هذا هو التونسي الذي علّم العالم الكثير. والباجي قائد السبسي لم يكن سوى تونسي، علمنا الكثير

أحيانا كثيرة أراوغ وأتهرب من الجواب، حتى لا يقال إني أنافق.. إلا أن حب التونسيين لتونس، الحب الذي برز في مراسم توديع الباجي، شجعني على أن أقول السبب. أحب تونس لأنها بلد ليست كباقي البلدان، وأحب شعبها لأنه ليس كباقي الشعوب.

أحب تونس، التي كانت أول كلمات كتبتها عنها، خلال القمة العالمية حول مجتمع المعلومات عام 2005 هي: “تونس ليست مدينة فاضلة، تونس مدينة من دم ولحم وعرق”. تونس مدينة حقيقية، لا تدعي المثالية، ولهذا السبب أحب تونس.

أحب تونس.. بيمينها، وأحبها بيسارها، أحبها بشيوخها، وأوليائها، وبخورها. أحبها بمثقفيها العلمانيين، الذين يختلفون في ما بينهم، فتعلوا أصواتهم، وهم يتجرعون أقداح البيرة، مشروبهم المفضل.

أحب تونس بنسائها المتشحات بالسفساري، وبغزلانها يتهادين على شواطئ حلق الوادي والمرسى، اللواتي كتب عنهن العملاق، بيرم التونسي، أغنية بساط الريح، رائعة فريد الأطرش. أحب تونس، التي قدمت لنا، لطفي بوشناق، الشرقي الهوى، وفي الوقت نفسه قدمت لنا، سمير لوصيف، صاحب الصوت الأسطوري الذي أطربنا على أنغام المزود.

أحب تونس، التي طيلة حكم الباجي قائد السبسي، قوّمته بلسانها، وكانت قاسية عليه، وأعادت اكتشافه بعد الرحيل. علاقة الحب بين التونسيين وتونس، علاقة حب من نوع آخر. عندما “يحرق” شباب تونس مغامرا بحياته، ليصل إلى الضفة الشمالية للمتوسط، لا يفعل ذلك كرها بتونس، بل حبا فيها.. يغادرها وهو يحلم بيوم يعود فيه إليها، حاملا ما يكفيه لبدء مشروع صغير، يعينه على العيش فيها.

وفي غيبته يدمدم مع سمير لوصيف، دون خجل، وهو الذي لم يهب الموت يوم ترك البلاد مهاجرا:

يا ميمتي الغالية.. يا عين من عينيا

مشتاقلك مشتاق.. مشتاقلك مشتاق

بعدك يا عزيزة عليا.. ليام لعبت بيا

وكواني الفراق.. وكواني الفراق

طال غيابي طال.. تعبني الترحال

وحراقه الأشواق.. حراقه الأشواق

التونسيون شعب يحب بلاده، “كما لا يحب البلاد أحد”، حتى وإن بدا قاسيا عليها.

بحضور ملوك ورؤساء، حوّل التونسيون مراسم التأبين إلى استفتاء عظيم، لم يشهد له التاريخ مثيلا، استفتوا فيه على نصيب المرأة في الميراث، واحترام الدستور، والحرص على قيم العلمانية، والأخلاق الروحانية

قوي كصخرة، رقيق كجناح فراشة، هذا هو التونسي الذي علّم العالم الكثير. والباجي قائد السبسي لم يكن سوى تونسي، علمنا الكثير.. وكان من أجمل ما قيل عنه، هو قولة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في تأبينه “تعلمت منك الكثير يا سيادة الرئيس”.

مراسم دفن الباجي قائد السبسي، سيتعلم منها العالم الكثير، وستتعلم منها الشعوب العربية، خاصة تلك التي عصفت بها رياح الربيع العربي، الأكثر، ستتعلم منها قيمة الحفاظ على دولة المؤسسات، وقيمة القانون المحمي بالدستور، وفوق كل ذلك تتعلم كيف تعيش مع الآخر المختلف.. تتعلم الديمقراطية.