كرم نعمة يكتب:

لا تدع السياسي يكون رئيس تحريرك

قدم كايل بوب رئيس تحرير مجلة “كولومبيا جورنالزم ريفيو” درسا ثمينا للصحافيين البريطانيين، وهم يعيشون صدمة الانبهار والاستياء معا بصعود زميل سابق لهم إلى رئاسة الحكومة البريطانية، قائلا “لا تدعو بوريس جونسون يكون رئيس تحريركم ولا تدعونه يملي عليكم الأخبار”.

قال بوب الذي يرأس تحرير المجلة الأكثر أهمية في نقد الأداء الصحافي، وهو يخاطب الصحافيين البريطانيين المستقلين “عليكم أن تكونوا صادقين مع أنفسكم قبل جمهوركم وأنتم تعيدون تعريف جونسون ودوافعه، لا تدعوه يملي عليكم ما يريده لمجرد أنه مهر اللعبة الصحافية”.

أهمية نصيحة كايل بوب لا تكمن في أنها موجهة إلى الصحافيين البريطانيين وحدهم، بل يمكن أن تكون درسا أساسيا لأي صحافي عربي وهو يعيد كتابة القصة المعتادة عن الزعيم والملك أو الأمير والوزير، لأن الحقيقة المؤسفة مازالت قائمة بأن كل هؤلاء “الزعماء” مازالوا رؤساء تحرير يملون علينا أخبارنا بنجاح لسوء الحظ!

في الواقع ثمة دروس متصاعدة ومستمرة في الصحافة البريطانية منذ بريكست إلى تبوأ بوريس جونسون رئاسة الحكومة البريطانية، ليس لكونه صحافيا سابقا فحسب، بل لأن الجدل المتفاقم بشأن طريقة تفكيره في قلعة الديمقراطية التاريخية يبعث على المزيد من التساؤل، فالواقعية السياسية البريطانية، ستكون في امتحان يذكرنا باستياء دينس هيلي، وزير المالية البريطاني عام 1979 من لوحة إعلانية كتب عليها “حزب العمال فاشل”، متهما حزب المحافظين “ببيع السياسة وكأنها مسحوق صابون”.

لذلك، الصحافيون البريطانيون أمام اختبار ألا يسوقوا بريكست بكونه حلوى صنعها جونسون، لأنه ببساطة لا أحد يعرف مذاق ما يعرف بحلوى بريكست إلى اليوم!

مع ذلك يبدو لي أن التجربة الإعلامية البريطانية منذ التصويت على بريكست تقدم للصحافة العربية دروسا مفيدة في زمن سياسي غير عادي، بالرغم من وجود إمبراطوريات صحافية تقدم نموذج أعمال مرتبط بالمصالح. إلا أن هناك لحظات يمكن فيها للصحف أن تحدث تغييراً عميقاً في الحوار الوطني، وفق ديفيد يلاند، رئيس التحرير السابق لصحيفة ذا صن، الأكثر مبيعاً في المملكة المتحدة.

لقد جادل ماكس هاستينغز المحرر السابق في صحيفة ديلي تلغراف التي سبق وأن عمل فيها جونسون محررا، أنه يصلح لصداقة ممتعة لكنه “مراهق كبير” عندما يتعلق الأمر بالمسؤولية الصحافية سابقا وبرئاسة الوزراء اليوم.

علينا أن نجد معادلا في الإعلام العربي ونحن نتحدث عن “المراهق الكبير” والطريقة التي يتم بها تغطية الأحداث السياسية الكبرى واختيار المسؤولين في بلداننا.

يمكننا أن ندرج أنواعا من الخيارات السياسية المرة وعديمة الطعم التي تسوق لها الصحافة العربية بوصفها الحلول الأشهى والأجمل.

لسوء الحظ مازال مثل هذه النموذج الهزيل المعبر عن صحيفة برافدا السوفيتية قائما وبامتياز في صحافتنا العربية، وذلك ما يجعل حال الصحافة لدينا مخيبا لآمال القراء، بل إن الصحافة العربية أضحت متهاونة حتى عن زرع بذور الشك في الحكومات الفاسدة!

لذلك تبدو نصيحة كايل بوب ثمينة بشأن ألا يسمح الصحافي العربي أن يكون مدونا لما يميله عليه المسؤول، عليه الاهتمام بحقيقة الإنجاز السياسي وليس التنازل عن جودة الأداء، وضريبة الكلام المجرد التي يفضل أن يدفعها السياسيون. فالسياسة ليست تسلية عندما يتعلق الأمر بالإخلاص من أجل ألا يفقد الصحافي ثقة الجمهور. هناك من أخذ زمام المبادرة للتنكيل بالصحافيين ومحاولة قلب الزمن وكأننا في عالم مغلق.

ثمة درس مثالي ما زال ماثلا منذ أن اتفق الرجال الأقوياء على كتابة الدستور الأميركي، يكمن في تفضيل دولة من دون حكومة على دولة بلا صحافة، ومع أن مثل هذا المبدأ لم يتحقق وبقي فكرة أفلاطونية، لكنه بقي حيا وتتم استعادته كلما مست حرية الصحافة.

الحرية ليست اختراعا أميركيا أو بريطانيا، هناك عدد قليل من الدول التي كانت فيها أهمية الصحافة المستقلة منسجمة بشكل وثيق مع تاريخها الطويل.

لكن المعركة المتواصلة سواء بين الصحافة والرئيس الأميركي دونالد ترامب، أو بين ما ينتظر الصحافة البريطانية من رئيس وزراء جديد كان أحد العاملين فيها، يساعد على الفهم التاريخي المعاصر لعلاقة الصحافة بالسياسيين.

هذا لا يعني في كل الأحوال أن الصحافة الأميركية والبريطانية ليست لديها الكثير من الأخطاء والانحياز والغرور، بل إن بعض وسائل الإعلام هي منافذ إعلانية تظهر استهتارا عارما بالحقيقة وانقيادا أعمى لخطط رأس المال والحكومات.

سبق وان كتبت بأن الصحافيين كائنات ضارة للسياسيين، لكنني مازلت بعيدا عن ذلك التفاؤل بهذا الضرر النافع الذي هو في حقيقة الأمر  هوية تميز للصحافي العربي إن وجد، ولأن غالبية الصحافيين العرب لا يتحولون إلى «كائنات ضارة» في حضرة السياسي العربي، فإنهم غير نافعين بالضرورة.

الصحافيون الحقيقيون ليسوا في مأمن والتحديات التي تواجههم لاتقتصر عليهم، لذلك ينصحنا الصحافي الأميركي كايل بوب بأن لا نضيع في كآبة فردية بسبب الزمن غير العادل بحق الصحافة. فهناك اليوم ما يجعل الصحافة تثابر من أجل استعادة مجدها.

وهناك ما يجعل الصحافة أقوى في مواجهة الحكومات وهي تعري الاستبداد وتكشف تفاقم عدم المساواة، وإلا تخشى كشف التحولات الديموغرافية في جميع أنحاء العالم. من أجل هدف إعادة ثقة الجمهور المتراجعة، وعدم السقوط في لجة الفوضى التي تسبب بها الانترنت.

فاذا كان الوطنيون الحقيقيون لايخشون قول الحقيقية، فالصحافيون جزء من هذا العالم مرتبطون بالحقيقة نفسها، كي لا يجعلوا التاريخ ما يحب أن يتذكره الناس وليس ما يجب ان يتم تداوله.