محمد قواص يكتب:
اليمن: هل الوحدة خيار أم قدر؟
أعادت الرياض ضبط البوصلة اليمنية بعد ساعات عاشتها عدن اختلطت فيها كثير من الأمور. بدا أنه كان لا بد من هذه “الفوضى” لكي يتم تصويب المسار اليمني. كشفت سطور بيان التحالف حول وقف إطلاق النار عن لغة حازمة في شأن لطالما تمت مقاربته بالصمت حتى انفجرت الأمور ولم يعد الصمت حكمة الحكماء. وكشفت دعوة السعودية للفرقاء المتنازعين إلى الحوار في الرياض، عن أن هناك فرقاء، وأنهم متنازعون، وأن الأمر يحتاج إلى حوار لطالما تم إغفاله تحت مسوّغ أن الأمر ليس أولوية في معركة اليمن الحالية.
استجاب الجنوبيون بسرعة قياسية لدعوة التحالف العربي إلى وقف إطلاق النار والترحيب بالدعوة السعودية إلى الحوار. أدركوا أن خطوطا حمراء وُضعت لحراكهم، فأعادوا ضبط طموحاتهم وفق اللحظة الإقليمية الدولية الراهنة. ثبت أن حراك الجنوبيين منضبط ومضبوط داخل سياق لن يتجاوز التحالف العربي. وفيما راجت على ضفاف الحراك في الجنوب دعوات إلى إنعاش مطالب انفصاله، فإن عيدروس الزبيدي، رئيس المجلس الانتقالي، أعاد التموضع وفق قوانين الممكن والمستحيل، مؤكدا الثقة بالسعودية “التي نأمل منها ونعلق عليها آمال شعبنا وتطلّعاته”.
وأن ينتقل ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى السعودية للقاء العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، فذلك أن أمر اليمن همّ مشترك انخرط البلدان في معالجة مأزقه سويّا، وأن أي نقاش حول مساره ورعاية شؤونه يتم سويا. فعلى قاعدة الرؤية الواحدة قام التحالف العربي، وعلى هذه القاعدة يتم تمتينه وتحديث مفاعيله.
على هذا، ووفق تلك الرؤى، يلتقي البلدان في اليمن. ولئن روّج المروجون بأن أحداث عدن تنمّ عن تناقض بين البلدين، فإن أي مراقب حصيف يسهل عليه أن يلاحظ أن التكامل قائم بينهما، على نحو يحوّل الحدث العدني إلى مناسبة لإعادة قراءة المشهد اليمني وفق ما استجد من نقاش عالي النبرة يجري بين اليمنيين.
لم تخف جماعة الحوثي شماتة مما جرى في عدن. أشاعت بسرعة قياسية ما تريده إيران لهذا البلد. استنتجت منابر الجماعة انتهاء الشرعية اليمنية على نحو يجعل من أمر الجماعة الواقع شرعية من ضمن شرعيات أخرى تطل برأسها. اندفع الحوثيون إلى الدعوة لـ”حوار بين اليمنيين” بعيدًا عن أي رعاية عربية. وراحت منابرهم تسوّق لقيامه بين قوى الأمر الواقع الأربع: جماعة الحوثي، حزب المؤتمر الشعبي، حزب الإصلاح والمجلس الانتقالي الجنوبي. وفي تلك الدعوة تصطاد الجماعة بصبيانية في مياه تريدها عكرة بين اليمنيين. وهي في تعيينها للصالح لهذه المفاوضات ترسم معالم يمن تستطيع إيران التمكن من عناصره.
غير أن تحرك الرياض وأبوظبي أعاد ترتيب أوراق خُيّل لطهران أنها اختلطت. يختلف اليمنيون ربما في كيفية إدارة معركتهم، لكنهم موحدون في رؤيتهم للحوثية، ومن ورائها إيران، بصفتهما الخطر الحقيقي على اليمن في حاضره ومستقبله، ومتفقون على أن العمق اليمني هو عربي خليجي، وأن وحدة مصير تجمع اليمن بالسعودية والخليج.
أن يتم الاعتراف بأن هناك نزاعا فذلك أن جدل الجنوب والشمال ليس وليد هذه الساعة. وجب أن لا ننسى أن اليمن الجنوبي كان دولة مستقلة (قامت عام 1967) تتمتع بحدود وسيادة معترف بها دوليًّا وتتميز في منهجها وعقائدها ورؤاها السياسية عن تلك التي كانت سائدة شمالًا في صنعاء. تعود تلك الحكاية إلى زمن الحرب الباردة وشيوع الشيوعية في العالم والتي كانت لها واجهة تحكم اليمن الجنوبي من عدن. غير أن تلك الرواية تبسيطية تخفي عوامل لا يدركها إلا اليمنيون.
وبغضّ النظر عن الجدل حول حكاية الوحدة بين الشمال والجنوب (أُعلنت عام 1990)، فإن في الجنوب من لم يكن يريد هذه الوحدة وإن كان استكان لها لعلها تأتي له بما لم تحققه الدولة المستقلة. على أن أهل الجنوب اكتشفوا شيئا فشيئا أن الأمر لم يكن وحدةً بالمعنى المتوخى بل احتلالًا شماليًّا للجنوب (لاسيما بعد حرب 1994). أعادت هيمنة صنعاء ورجالاتها وشيوخها في عهد الرئيس الراحل علي عبدالله صالح على الجنوب إحياء النزعة الانفصالية هناك. كانت تلك النزعة قد خفتت بحكم الخطاب الأخلاقي الوحدوي لدولة الوحدة وبحكم توزيع المناصب، بشكل صوري، على شخصيات جنوبية، على نحو يزعم عدالة في تقاسم الثروة والسلطة في البلاد.
يلمّح الحوثيون هذه الأيام إلى أنهم لا يمانعون في انفصال الجنوب. يقدمون واجهة أولى تتمنى بقاء اليمن موحدًا، لكنهم يقولون بالقبول بالحوار مع الجنوبيين (من ضمن خريطتهم الرباعية لليمنيين) والإصغاء إلى طموحاتهم الانفصالية. يجد الحوثيون الوقت ملائمًا لإغراء الجنوبيين بما يطمحون إليه، في وقت تفتح فيه ميليشياتهم جبهة جديدة باتجاه منطقة يافع (التابعة لمحافظة لحج) في هذا الجنوب. على أن انتهازية جماعة الحوثي مناسبة أخرى لتسليط المجهر على “قضية الجنوب” بصفتها ركنًا أصيلًا من قضية اليمن لا يمكن تهميشها وإغفالها داخل معركة اليمن الكبرى.
صنعت دولة اليمن الجنوبي المستقلة ثقافة وتقاليد عيش وأمزجة باتت جزءا من تكوين الشخصية الجنوبية. لم يهضم الجنوبيون زحف حزب الإصلاح وما يبثه من عقائد الإسلام السياسي داخل منطقة تشبّعت مفاهيم مدنية خلال مرحلة دولة الاستقلال، وهم تصدوا ببسالة لزحف الحوثيين الذين يبشرون بعقائد إسلام سياسي آخر داخل مدنهم.
يعترف كل اليمن بدور الجنوبيين في طرد الحوثيين من الجنوب وملاحقتهم على كافة الجبهات في الشمال، وبالتالي دورهم في ردّ نفوذ إيران عن اليمن، أي رده عن دول المنطقة أيضًا. فحريّ الإصغاء جيدًا إلى اعتراضهم واحتجاجهم الذي تم التعبير عنه في السنوات الأخيرة في القول والتصريح والتظاهر في الشوارع (مليونية في عدن في مايو 2017) إلى أن انفجر قتالا عشية العيد.
قد لا يكون الانفصال خيار من يريد لليمن أن يبقى موحدًا، كما أن توقيت طرحه ليس مناسبا هذه الأيام. بيد أن على تلك الوحدة أن لا تكون قهرية تُقرأ من كتاب خشبي، وهي ليست قدرا مُنَزّلا لا خيار لغيره. فحتى مخرجات الحوار الوطني (2013) التي انقلب عليها الحوثيون تحدثت عن إقامة أقاليم في اليمن، بما يعني اعترافا بتعدد اليمن داخل الوحدة. فإذا ما كان الجنوبيون لا يرون في اليمن الذي دافعوا عنه بدمائهم ما يلبي حاجتهم إلى عيش رغيد واستقرار لا تغدر به عقائد واردة من خارج ثقافتهم، فحري الاستماع إليهم بصفتهم شريكًا يسعى لتحسين وتحصين تلك الشراكة.
أصغت الرياض جيّدًا لحدث عدن، وبات للجنوبيين صوت وجب على اليمنيين وأصدقاء اليمن سماعه. تحدث محمد بن زايد عن فرصة للحوار توفّرها السعودية لليمنيين، فهم وحدهم من بيدهم إصلاح البيت اليمني ومنع تصدّع بنيانه. المعركة ضد الحوثيين تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى سواعد الجنوبيين، وهنا فقط قد يكمن سرّ حراكهم الأخير.