خير الله خير الله يكتب:
سحب سود في سماء المنطقة
إلى الآن، يبدو ظاهرا أن إسرائيل و”حزب الله” احترما أصول اللعبة الدائرة بينهما والتي تقوم على حاجة كلّ منهما إلى الآخر، تماما مثلما كانت إسرائيل في حاجة إلى الوجود الفلسطيني المسلّح في جنوب لبنان في العام 1976.
وقتذاك، أعطت الضوء الأخضر، بناء على طلب أميركي وبوساطة أردنية تولاّها الملك حسين، لدخول الجيش السوري إلى لبنان بغية وضع يده على القواعد التي كان فيها “مسلحو منظمة التحرير الفلسطينية” حسب التعبير الذي استخدمه مهندس الدخول هنري كيسينجر.
في اللحظة الأخيرة، وبعدما كان متفقا أن يشمل الانتشار السوري كل الأراضي اللبنانية، بما في ذلك الجنوب كلّه، غيّر رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين رأيه ورسم “الخطوط الحمر” للجيش السوري الذي توجب عليه عدم تجاوز مناطق معيّنة رسمت حدودها بدقّة.
كانت حجّة إسرائيل لدى كيسينجر أنّها “في حاجة إلى الاشتباك مع الفلسطينيين بين حين وآخر”. كانت تريد في الواقع الاستمرار في استخدام ورقة الجنوب اللبناني في إطار لعبة إقليمية أكبر تشمل تبادل الرسائل مع سوريا ومع منظمة التحرير.
بعد اجتياح صيف 1982 وخروج القوات الفلسطينية من الجنوب اللبناني، صارت اللعبة في جنوب لبنان محصورة بين سوريا وإسرائيل قبل أن تتحوّل تدريجا إلى لعبة إيرانية – إسرائيلية بعد الانسحاب العسكري السوري من لبنان في نيسان – أبريل 2005.
من الآن إلى موعد الانتخابات الإسرائيلية في السابع عشر من الشهر الجاري، يبدو أن هناك هدوءا سيسود في جنوب لبنان في المدى المنظور على الرغم من أن السحب السود بدأت تتكدّس في سماء المنطقة.
بعد مواجهة يوم الأول من أيلول – سبتمبر الجاري، اعتبر “حزب الله” نفسه منتصرا. أقنع جمهوره بأنّه ألحق خسائر كبيرة بالإسرائيليين وأنّه استطاع الردّ على مقتل اثنين من عناصره، هما حسن زبيب وياسر ضاهر، في بلدة عقربا السورية القريبة من دمشق.
في المقابل، أبدت إسرائيل ارتياحها إلى عدم سقوط قتلى في صفوف جيشها وتصرّف بنيامين نتانياهو بطريقة توحي بأنّ الحادث كان عارضا وأن الحياة تسير بشكلها المعتاد، أي من دون توترات، في منطقة الحدود اللبنانية – الإسرائيلية.
كان يمكن أن تبقى الأمور في إطار حدود ضيّقة، حدود قواعد الاشتباك المرسومة، لولا أنّ ليس في الإمكان عزل ما يحصل في جنوب لبنان عن الوضع الإقليمي ككلّ. وهذا ما يفترض أن يتنبّه إليه كبار المسؤولين اللبنانيين وليس الرئيس سعد الحريري وحده الذي تحدث باكرا عن أهمّية حماية لبنان عن طريق تحويل القرار الرقم 1701 الصادر عن مجلس الأمن في آب – أغسطس من العام 2006 إلى قرار يثبت وقف النار في جنوب لبنان وليس مجرد قرار “يوقف الأعمال العدائية” وكأنّ الفترة بين صيف 2006 و2019 ليست سوى مرحلة هدنة طويلة يستريح خلالها المتحاربون ويعدّون أنفسهم لجولة جديدة.
قبل كلّ شيء، تكمن خطورة ما يدور حاليا في جنوب لبنان في أنّ “حزب الله” ولأسباب إيرانية واضحة قرّر الاستغناء عن القرار 1701. وهذا ما فعلته إسرائيل سابقا متذرعة بأن الحزب لم يحترم يوما القرار بدليل وجوده في منطقة عمليات القوة الدولية من جهة والأنفاق التي حفرها والتي تربط بين الأراضي اللبنانية والجليل من جهة أخرى. أي أن الحزب يعدّ نفسه لحرب جديدة ليس معروفا ما الذي يمكن أن تؤدي إليه باستثناء جلب المزيد من الدمار للبنان واللبنانيين ولأهل الجنوب على وجه التحديد.
بخرقه المكشوف للقرار 1701، يعرّض “حزب الله” لبنان إلى مخاطر كبيرة في وقت يمرّ البلد بأسوأ أزمة اقتصادية منذ استقلّ في العام 1943 وحتّى منذ ما قبل الاستقلال. الأخطر من ذلك كلّه، أنّ المواجهة بين إيران وإسرائيل آخذة في الاتساع، خصوصا بعد الضربات التي وجّهتها إسرائيل إلى مواقع إيرانية في العراق.
هذه المواقع هي شكلا مواقع لما يسمّى “الحشد الشعبي”، أي لميليشيات مذهبية عراقية تابعة لـ”الحرس الثوري” الإيراني الذي لا يجد عيبا في الحلول مكان الجيش العراقي وحتّى إنشاء سلاح جوّ خاص به بغطاء من “الحشد”!
ليس العراق وحده هدفا إسرائيليا. هناك استهداف إسرائيلي مستمرّ لمواقع إيرانية في الأراضي السورية وصولا إلى البوكمال. الأكيد أن التركيز الأساسي إسرائيليا على مناطق الجنوب السوري، كما حصل في عقربا أخيرا، لكنّ الأكيد أيضا أنّ إسرائيل بدأت تعدّ نفسها لمواجهة واسعة تشمل سوريا والعراق ولبنان في حال إصرار “حزب الله” على زجّ البلد في معركة مدمّرة له…
لا يمكن عزل المعطيات الإقليمية التي تتحرّك إسرائيل في ظلها عن إدارة أميركية على استعداد لتلبية أي طلب إسرائيلي. مثلما أن إيران تأمل بالتخلّص من دونالد ترامب في أسرع ما يمكن مراهنة على عجزه عن الحصول على ولاية ثانية، فإنّ إسرائيل، بقي “بيبي” نتانياهو في موقع رئيس الوزراء أم لم يبق، تعتبر أن هناك فرصة لا تعوض اسمها الإدارة الأميركية الحالية.
لم تتردّد هذه الإدارة في نقل السفارة الأميركية إلى القدس في خطوة أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها في غاية الوقاحة. كذلك، وافقت إدارة ترامب على ضم إسرائيل لهضبة الجولان المحتلّة منذ العام 1967. في النهاية، ليس لدى الإدارة الأميركية الحالية أي اهتمام بعملية السلام في المنطقة، على الرغم من كلّ الكلام الجدّي عن طرحها قريبا خطة لا يمكن تشكل أي مساهمة في إيجاد تسوية حقيقية، تحت مسمّى “صفقة القرن”.
من الآن إلى موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني – نوفمبر 2020، سيصعب على إسرائيل تفويت فرصة لن تتكرر هي وجود إدارة دونالد ترامب…
أي مصلحة للبنان في زجّ نفسه في هذه اللعبة المعقدة التي ربطه بها “حزب الله” فيما مصلحته المباشرة ومصلحة مواطنيه في البقاء خارجها؟ لا مصلحة لبنانية بتحوّل البلد إلى ورقة إيرانية لا أكثر.
ولكن هل يمتلك لبنان ما يكفي من المناعة للعودة إلى لغة العقل والمنطق، لغة موازين القوى التي تعني أوّل ما تعني أن إيران لا يمكن أن تنتصر على الولايات المتحدة، في حال كان هناك موقف أميركي جدّي منها، نظرا إلى أنّها لا تمتلك أي مقومات تمكنها من ذلك… أمّا إسرائيل، فستكون مستعدة للتصرّف بطريقة مختلفة أخرى في جنوب لبنان، بل في لبنان كلّه، متى وجدت أن لديها مصلحة في ذلك وما دام الغطاء الأميركي موجودا بكميات تجارية!
تبقى إيران نفسها التي لم توفّر فرصة لاستعداء الدول العربية وجعلت كلّ الأخطار تهون أمام خطر الاستثمار السياسي في إثارة الغرائز المذهبية الذي هو العنصر الأساسي في كلّ سياساتها.