محمد قواص يكتب:

اللحظة الشيعية الكبرى.. "العودة إلى حضن الوطن"

قبل سنوات كان السجال حادا بين القوى السياسية حول قانون الانتخابات الأنجع في لبنان. لم تكن الطبقة السياسية تبحث عن القانون الأفضل الذي بإمكانه أن يكون صادقا في تمثيل اللبنانيين، بل عن القانون الذي يعيد إنتاج الطبقة السياسية نفسها، أو الذي يتيح تضييق هامش خسائرها. حينها خرج الأمين العام لحزب الله السّيد حسن نصرالله منتشيًا بأن لا مشكلة لحزبه مع أي قانون يتوافق الآخرون عليه. وفي ذلك أن نصرالله كان متأكدًا من التبعية التامة للطائفة الشيعية لـ”خيار المقاومة” في البلاد.

قبل ذلك بسنوات، وبعيد اغتيال الراحل رفيق الحريري، خرج مناصرون لحزب الله يقطعون الطرقات احتجاجا على برنامج تلفزيوني فكاهي لبناني قيل إن نكاته مسّت بشخص زعيم حزب الله. خرج مؤلف البرنامج، وهو القريب من التيار العوني المتحالف مع حزب الله، مستغربا ردة فعل جمهور الحزب، معتذرا عن أي سفاهات غير مقصودة يمكن أن تكون فُهمت خطأ. في تلك المناسبة خرج أحد نواب حزب الله معللا غضب الناس بأن ثقافة الشيعة في البلد تختلف عن ثقافة بقية المكونات اللبنانية، وبالتالي على الجميع مراعاة الأمر وتفهم المزاج المختلف للناس.

قبل أيام، السبت الماضي، خرج نصرالله متوعدا الحراك الشعبي اللبناني بحراك مضاد يقوده حزب الله. ذكّر الرجل أن جمهور الحزب إذا خرج فلن يخرج لبضعة أيام (متهكما على ما اعتقده عرضيا في حراك اللبنانيين)، بل لا عودة قبل تحقيق الأهداف. وفي ذلك تأكيد آخر أن شيعة لبنان تابعون للحزب وزعيمه في الذهاب وفي الإياب.

يخرج الشيعة هذه الأيام ليمنحوا الحراك الحالي شرعية لبنانية شاملة لا لبس فيها ولا تشققات

في الأيام الأخيرة حصل ما فاجأ حزب الله. الشيعة ليسوا أتباعا. وهم وإن رضوا بالالتصاق بـ”المقاومة”، حين كانت مقاومة، وسكتوا عن خيارات هذه “المقاومة” في حربها في سوريا، وكتموا رد فعلهم في تمارين الحزب لجرّ البلد باتجاه الأجندة الإيرانية وإبعاد البلد عن بيئته العربية، فإنهم في الحراك الذي اندلع قبل أكثر من أسبوع، اجتازوا لحظة تاريخية تعيدهم “إلى حضن الوطن”، وفق التعبيرات التي تستخدمها، للمفارقة دمشق ودون أي مقارنة، في وصف العائدين إلى أحضانها.

تقدم الشيعة في لبنان داخل الحراك اللبناني الشامل مناقضين بذلك نظرية حزب الله حول اختلاف ثقافة الشيعة عن ثقافة اللبنانيين. تقدم الشيعة هذه المرة ليس بصفتهم طائفة، وليس بصفتهم “جمهور مقاومة”، بل بصفتهم مواطنين لبنانيين يحملون الهوية اللبنانية ويمارسون لبنانيتهم كاملة، شأنهم في ذلك شأن بقية اللبنانيين الذين خرجوا إلى الشوارع معترضين ثائرين.

نعم فقد حزب الله حاضنته الطبيعية. وسيحتفظ الحزب ربما بحاضنة حزبية متصدعة. لم يعد الشيعة في لبنان مستهلكين لبضاعة “المقاومة” ومناكفة “الشيطان الأكبر” و”الذود عن المراقد في سوريا”، و”الدفاع عن المظلومية في اليمن”، ونصرة “المضطهدين” في البحرين والتبشير بالتشيع في المغرب والسودان… إلخ. أعاد الشيعة بعث المفردات اللبنانية في حراكهم، مهملين ما تراكم من قيم ومفردات وتوصيفات صدّرتها ثورة الجمهورية الإسلامية في إيران.

لم يكن الشيعة يوما جسدا منسجما واحدًا. كانت الطائفة متمردة في طبيعتها منخرطة في كل تيارات التمرد التي راجت في المنطقة منذ الاستقلالات. كان الشيعة في صلب التيارات الماركسية والأحزاب القومية، العروبية والسورية، كانوا جزءا من المقاومة الفلسطينية التي عرفوها في مناطقهم، وكانوا جزءا من تيارات قومية لبنانية لطالما دافعت عن فينيقية غابرة في هوية لبنان. شكّل الفضاء الشيعي متنفسًا لبقية الطوائف في لبنان الذي وجد لدى الشيعة براغماتية ووسطية وتسامحا واعتدالا حاضنا لبقية اللبنانيين.

كان ذلك قبل أن يظهر الإسلام السياسي الشيعي، وتتنامى أسواره بعد قيام ثورة الخميني في إيران. حدث أن ظهرت في مناطق الشيعة في بداية الثمانينات كائنات غريبة قيل يومها إنها تنتمي إلى الحرس الثوري. علم اللبنانيون بعد ذلك أن للحرس روافد لبنانية تخطف وتدمر وتهدد باسم الثورة في إيران، وأن وجوها وشخوصا شيعية لبنانية، باتت من خلال حزب الله، تسحب الشيعة إلى مكان آخر غير لبنان.

لم يكن شيعة لبنان يملكون خيارات بديلة. عملت سطوة النظام السوري في لبنان على فرض هيمنة المنطق المذهبي على ذلك الوطني العابر للطوائف. أطاحت الشيعية السياسية الحديثة بالمقاومة اللبنانية التي ظهرت بعد الاجتياح الإسرائيلي، بحيث يحرّم على غير الشيعة ممارسة حقهم وواجبهم في الدفاع عن بلدهم ورد الاحتلال عنه، ثم بعد “حرب الأخوة” في الثمانينات بين حزب الله وحركة أمل، حرّم على الشيعة أنفسهم غير المنتمين إلى حزب الله ذلك الحق وذلك الواجب.

لم يصنع الشيعة في لبنان حزب الله، بل إن هذا الحزب هو الذي أمعن في صناعة هيكل أدخل الطائفة داخله. حوصرت الطائفة من خلال كماشة الثنائي الذي ترعى جناحا له دمشق وترعى جناحه الآخر طهران. صُهر الشيعة وفق قواعد الفقه والعقيدة والوطنية والخوف، استسلموا للأمر الواقع “الإلهي”، كما استسلم بقية الفرقاء اللبنانيين لأمر حزب الله راعيا ووصيا على الشيعة في لبنان.

تقدم الشيعة هذه المرة ليس بصفتهم طائفة، وليس بصفتهم “جمهور مقاومة”، بل بصفتهم مواطنين لبنانيين يحملون الهوية اللبنانية ويمارسون لبنانيتهم كاملة

لم يشهد لبنان في تاريخه خططا استهدفت الشيعة في لبنان. كانوا جزءا من طبيعة البلد ومنظومته السياسية في قوتها ووهنها. لم يعرف الشيعة شعور الخوف أو الضعف وهم من نسيج الشعب اللبناني في صراعاته مع السلطة أو في التماهي معها.

بيد أن حزب الله استطاع أن يقنع الشيعة بأن سقوط الحكم في طهران أو دمشق هو سقوط لهم، وأن الدفاع عن مناعة نظام الولي الفقيه وبقاء نظام دمشق هو أمر يحدد مصيرهم بين الوجود والعدم، وأن حماية الشيعة في العالم هي حماية لهم.

قاوم الشيعة ذلك المارد الذي يسطو على حضورهم ويصادر مستقبلهم. أُلصقت بالوجوه المعترضة تهمة العمالة والتبعية للخارج، منهم من بات في خطاب الحزب “شيعة السفارة”، في غمز من ولائهم لأجندة أميركية. بات الاعتراض السياسي على حزب سياسي يساوي العمالة التي لا رحمة في مواجهتها في “دولة حزب الله”.

لا عجب أن يستسلم الشيعة لقدرهم في بلد استسلم فيه حتى خصوم الحزب اللبنانيين لهذا القدر. مشى الشيعة مع اللبنانيين في 14 مارس 2005 وكانوا جزءا مؤسسا من حراك “14 آذار” السياسي، قبل أن يتخلى هذا الحراك عن شيعته، يهملهم ويهمش حضورهم، لصالح تحالف مع الثنائية الشيعية بصفتها قدر الشيعة الأبدي.

يقلب الشيعة هذه الصفحة هذه الأيام. خرج سنّة البلد بعد اغتيال رفيق الحريري يزحفون ولو متأخرين في انضمامهم لما كان يطالب به كثير من المسيحيين بخروج جيش الوصاية السورية من لبنان عام 2005. كان ذلك الزحف لحظة لبنانية نجحت في تعظيم خيار لبناني تاريخي لافت. يخرج الشيعة هذه الأيام ليمنحوا الحراك الحالي شرعية لبنانية شاملة لا لبس فيها ولا تشققات.

يخرج الشيعة ليهزوا أركان دولة حزب الله برئيسها وحكومتها وبرلمانها.