رشيد الخيُّون يكتب:

جعفر هادي حسن.. لا "عشيرة" ترثيه

تتأثر الثّقافة بمنطقتنا بما يحيط بها من غيتوات حزبية وعشائرية ومناطقية، هذا ما لفت نظرنا إليه رحيل الباحث جعفر هادي حسن (1941 - 2019)، مع أنه يعد أحد أبرز الكتاب والباحثين في الشأن العبري واليهودي، وما علاقة ذلك بالإسلام والشّرق ككل، وله دراسات فريدة من نوعها، وفق اختصاصه الذي سخر له الشوط الأكبر من حياته، إلا أن فقدانه، بعد مرض عضال، لم يحرك مثقفا أو باحثا في هذا المجال أو غيره أن يقول فيه كلمة رثاء، أو تذكير بجهوده الفذة في عالم البحث والثقافة بشكل عام.

فجعفر هادي حسن لم ينتم لحزب أو زمرة ثقافيّة محددة، فلا هو بالشّاعر ولا الروائي ولا المتسلق ثقافيا عبر العلاقات العامة، التي كثيرا ما تنتج أسماء، وبالجملة ليست له عشيرة ثقافية أو سياسية ترثيه. فربّما كان الرّثاء اليتيم الذي صدر من منظمة الأكاديميين العراقيين بلندن، وهو ما نشرته على حياء بعض الصحف العربية، من دون أن تكلف المحررين، ليظهروا ما لدى الرّجل من علم وفير.

صب جعفر هادي حسن جل اهتمامه على الدراسات اليهوديّة، مع أن بدايته الدراسية كانت اللغة العربية، حيث تخرج من جامعة بغداد، وأخذ الماجستير في موضوع “الكسائي وجهوده في النحو”، إلا أنه كان تواقا إلى التخصص النّادر عربيا، وذلك في مطلع السبعينات، من القرن الماضي، فوصل بريطانيا كي يبدأ الدراسات العليا في المجال الذي تتوق له، لكن جامعة مانشستر طلبت أن يبدأ من البكالوريوس كي يتخصص بهذه الدراسة فبدأ من جديد، حتى الدكتوراه.

كنت أتابع بحوثه في صحيفة “الحياة”، التي تصل عدن، في الثمانينات والتسعينات، فلفت نظري أسلوبه المميز في الكتابة، والموضوعات التي يطرحها، حتى كنت معه وجها لوجه في مكتبة جامعة بلندن، فسألته عن اهتمامه في هذا المجال، فقال كانت العربية اهتمامي الأول، لكن وجدت كبارا فيها، كأستاذيه مصطفى جواد (ت 1969)، وإبراهيم السّامرائي(ت 2001)، فشدته دراسة اللغات الشرقية، وفي مقدمتها العبرية، ليتخصص كلية في مجال الدراسات اليهوديّة، وقد برع فيها حتى اعتمدت عليه موسوعات في كتابة مواد فيها، مثل “الموسوعة الإسلاميّة”.

مرّ جعفر هادي حسن على الحياة الحزبيّة بالعراق، وكونه ابن النّجف، تأثر بالفكر الإسلامي، ودخل في حزب الدّعوة الإسلاميّة، وكانت في بيته مطبعة الحزب، التي جلبها خطيب المنبر الحسيني الشّيخ أحمد الوائلي (ت2003) من الكويت (عن المطبعة ورد خبرها في أمالي طالب الرفاعي). كان ذلك الانتماء في شرخ الشّباب، وسرعان ما ظهرت له إشكالية مزج الدّين بالسّياسة، واكتشف الواقع المخالف للشعارات داخل الحزب، فالتفت إلى عالم البحث والدّراسة، وكان قد سبق كل الذين ظهروا بعد 2003 قادة وكوادر.


عندما طرح موضوع مراجعة الأرشيف اليهودي العراقي، الذي وصل إلى واشنطن، اختير جعفر هادي حسن لمراجعة الأرشيف، لإعادته إلى العراق، لكن معركة على منافع الإيفاد أبعدته من الأمر، وما كان له مزاج التنافس مع جهلة بهذا الموضوع وغيره تماما.

جعفر هادي حسن كائن علمي، لا يشذ عن اختصاصه، الذي يعرف فيّه، وإن تناول الشّأن السّياسي فهو من داخل اختصاصه في الدّراسات اليهوديّة. نور باحثنا المجتمع العربي بأدق تفاصيل القضايا اليهوديّة، متحدثا عن النزاع بين الفرق داخلها، وبين يهود متدينين ويهود علمانيين، بين يهود صهاينة ويهود لا يعتقدون بالمشروع السّياسي لليهودية، والمتمثل بدولة إسرائيل والحركة الصّهيونيّة.

كان كتاب “الدّونمة بين اليهوديّة” والإسلام أول مؤلفات جعفر هادي حسن، وفيه قصة المرتد عن الدّيانة اليهوديّة إلى الإسلام بالاسم، ضمن ظروف الدولة العثمانية.

بعدهما صدر له كتاب فرقة “اليهود الحسيديم”، التي ظهرت في القرن الثّامن عشر، وجوهر دعوتها تركيز اليهودي على سعادته و”اعتبر الصوم مسببا للحزن والكآبة، ولأنه ركز على السعادة والفرح، أصبحت الموسيقى والغناء والرقص جزءا حقيقيا من حياة هذه الفرقة” (عن المؤلف).

تابع في كتابه “القبائل اليهودية العشر الضائعة والأسطورة والتّاريخ”، وفي كتابه “فرق يهوديّة معاصرة”، و”قضايا وشخصيات يهودية”، تاريخ وحاضر الفرق اليهوديّة المختلفة، والتي كل منها تعتقد أنها أبناء إسرائيل الأصلاء، من يهود اليابان إلى اليهود السود بأميركا، والفلاشا بإثيوبيا، والفرق والشّخصيات التي لا تتفق مع إقامة دولة يهوديّة.

ربّما سبقنا جعفر هادي حسن وفسر الإحجام عن رثائه من قبل زملاء له، وفي المجال نفسه، عندما سئل عن عالم المثقفين “بصورة عامة علاقة تتحكم فيها المصلحة والأيديولوجيا، فأنت ترى، مثلا، أصحاب المصلحة المتبادلة يرتبطون ببعضهم أكثر من غيرهم، وأصحاب الاتجاه الأيديولوجي الواحد هم أشد ارتباطا وعلاقة وأكثر تقاربا ومنافعة”. إذن يندر أن يوجد اعتراف خارج الانتساب لحزب أو جماعة ولنقل إنها الشّللية.

هذا ليس كل ما أنتجه جعفر هادي حسن، له بحوث كثيرة باللغتين العربية والإنكليزية، لم يسعفه الوقت كي يصدرها كتبا، فقد قضى السنوات الخمس الأخيرة من حياته في نزاع مع المرض، ومع ذلك كان مملوءا بالتّفاؤل أن ينتصر على مرضه، ويعود إلى بحوثه ونشاطه العلمي.