كرم نعمة يكتب:

متى تتحول الصحافة إلى منفعة عامة

قد أبدو مثاليا أكثر مما ينبغي وأنا أطالب الصحف بأن تتحول إلى مؤسسات منفعة عامة! فالجوهر الحقيقي للصحافة أن تكون الصحف مثل دوائر إطفاء الحرائق والمستشفيات… الصحافي في حقيقته هو الوجه الآخر للممرض لا يفكر بما سيحصل عليه عن معالجة مريض أو الحنو عليه. ورجل الإطفاء عندما يخترق النيران لاستخراج كهل محاصر لا يفكر في تلك اللحظة بكلمات الثناء والتصفيق الذي سيغدق عليه، لكننا لم نحصل بعد بين الصحافيين وفي أرقى الدول الديمقراطية على المعادل الموضوعي للممرض ورجل الإطفاء.

ذلك لم يتحقق بعد إلا بالحدود الدنيا، فالصحف لدينا مشاريع سياسية وتجارية ودينية، لا تبرم عقدا مع المصلحة العامة بقدر ما تفكر في مصالحها، تلك حقيقة مؤلمة لا نستطيع نحن الصحافيين تبريرها مهما أوجدنا من مسوغات نلوي فيها عنق الأخبار لمصلحتنا. هناك صحف مجانية، لكن ذلك لا يكفي بأن تتصرف إدارتها على أنها أشبه بشركة منفعة عامة، مثل هذه الصحف تمثل شركات تجارية أو خدمية كبرى تسعى إلى إيصال خطابها إلى الجمهور في صحيفة توزع مجانا صباح كل يوم، تمول نفسها من الإعلانات ومن أرباح الشركة الأم، صحيفة المترو في الدول الغربية مثال جيد على ذلك، لكنها أيضا صحيفة رابحة بالإعلانات التي تدر عليها الأموال، وبعدد القراء الذين يهتمون بها ويلتقطونها كلما تسنى لهم ذلك.

هناك صحف تمول من قبل جمعيات خيرية ترفع شعار المحافظة على خطابها وعدم الخضوع للمال الحكومي والحزبي، كما هو الحال في صحيفة الغارديان البريطانية، لكنها لم تصمد حيال الأزمة المتفاقمة التي أدخلت الصحافة برمتها إلى السوق المريضة، لذلك استعانت بتبرعات القراء الأوفياء وحثتهم على الاشتراك فيها من أجل أن تبقى مخلصة لفكرة ربطهم بديمقراطية حرة من الأفكار والمعلومات.

مع ذلك يبقى السؤال قائما، عما إذا كان بمقدور الصحف أن تقنع الحكومات والجمهور بأنها تتصرف فعلا كخدمة عامة.

احتفينا الأسبوع الماضي بقيام نخبة من الصحافيين والنشطاء في العراق بإصدار صحيفة “تكتك” في تعبير ذكي عن جيل التوك توك الذي كان بمثابة عربات إسعاف للمتظاهرين العراقيين ضد الأحزاب الدينية الفاسدة. كانت تلك الصحيفة فسحة أمل وسط انهيار الصحافة المحلية العراقية التي بدت مصابة بالوهن والبلاهة والارتخاء عما يحدث في شوارع وساحات المدن العراقية المنتفضة. ذلك مثال جيد للتعبير عن الفكرة، لكنه بحاجة إلى دعم شعبي من أجل الاستمرار.

أيضا الأسبوع الماضي أعلنت صحيفة محلية أميركية اسمها “سولت ليك تريبيون” التي ستحتفل بمرور 150 عاما على تأسيسها العام المقبل، عن التحول لتصبح غير ربحية.

دعونا نتخيل الأمر عن واقع هذه الصحيفة غير المعروفة للقارئ العربي مع أنها إحدى الصحف الحائزة جائزة بوليتزر، وأكبر عمرا من صحيفة فايننشيال تايمز الشهيرة. فهي تسعى لإنقاذ نفسها من الكساد، وتحويل متنها إلى خدمة عامة تقدمها للناس، وهذا يعني التخلص من كاهل الضرائب المفروضة عليها. بيد أن جاي روزن، أستاذ الصحافة في جامعة نيويورك، يطالب إدارة الصحيفة بإثبات أنها تؤدي منفعة عامة من أجل الحفاظ على وضعها الضريبي، وتنقل صحيفة فايننشيال تايمز عن روزن القول “ينبغي أن يكون واضحا للمجتمع أنها تشارك في خدمة عامة”.

لكن ذلك لن يكون سهلا، خاصة في سياق الاستقطاب السياسي، سواء ما يتعلق بهذه الصحيفة المحلية الأميركية أو أي صحيفة أخرى، فحتى الأخبار الرياضية تنطوي على مضامين سياسية واجتماعية، عند التفضيل بين أهميتها لإرضاء القراء، فكيف الحال بالأخبار السياسية والاجتماعية!

الصحافة تعيش أزمة غير عادلة بحقها، وتم تجريب كل أنواع الاستراتيجيات في محاولة لإخراج الصحف من السوق المريضة، بما في ذلك مشاركة المحتوى وبيعه وحث الجمهور على الاشتراك وتلقي التبرعات، لكنها جميعا كانت حلولا غير ناجعة، وبقيت الصحف في أزمتها.

خذ مثلا سياسة دخول رجال الأعمال والأثرياء سوق النشر لإنقاذ الصحف المطبوعة بما تحمله لهم من دعاية، وتمنحهم ثقلا ونفوذا سياسيين كبيرين، وفي نفس الوقت لا تمثّل عبئا ماليا كبيرا على إمبراطورياتهم الاقتصادية الضخمة.

فسبق وأن اشترى جيف بيزوس مؤسس مجموعة أمازون صحيفة واشنطن بوست بقيمة 250 مليون دولار. وأصبح الملياردير باتريك سون-شيونغ الناشط في مجال التكنولوجيا الحيوية، المالك الجديد لصحيفة لوس أنجلس تايمز بعد أن دفع مبلغ 500 مليون دولار.

لكن الغموض يرافق تقدم هؤلاء الأثرياء في معادلة اقتصادية لا تدر عليهم أرباحا عبر مد يد العون للصحف المطبوعة والإنفاق عليها وتغطية ديونها ونفقاتها الباهظة أحيانا، دون انتظار ربح كبير من ورائها. هم لا يزعمون بأن وراء هذا الاستحواذ تحويل الصحف إلى خدمة عامة، لكنهم يلاقون الترحيب على الأقل من باب مساعدة الصحافة الورقية للوقوف على قدميها.

ووفقا لروزن، مؤلف كتاب “لهذا تم اختراع الصحافيين” في حديثه لصحيفة فايننشيال تايمز “الأثرياء الذين يحافظون على الصحف صامدة ماديا من خلال تبرعاتهم الضخمة، من الممكن أن يبدأوا بإلقاء ثقلهم للتأثير في الأخبار، هذا سيكون تطورا متوقعا تماما. فهل هذا خطر؟ بالطبع هذا خطر. لكن كل نظام دعم معروف للبشرية مليء بالمخاطر”.

واليوم تبدو فكرة تحول الصحف إلى خدمة عامة مفيدة لأنها تتسق مع جوهر الصحافة أولا، وتعيد ترميم العلاقة مع القراء بعد أن فقدوا الثقة في مضمون الصحف، لكن هذا الخيار على أهميته يواجه صعوبات حقيقية.

مهما يكن من أمر دعونا نفكر بهذا الخيار، لكن من يؤمن به أصلا في أوساطنا السياسية والإعلامية العربية؟ ذلك هو السؤال الأهم.