يمكن للمرء في الجنوب وفي كثير من الأحيان أن يسمع المديح الصريح للنظام السابق في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية فالتنشئة والتربية والحياة العامة حينها الى حد كبير كانت موفقة وناجحة خاصة من حيث جوانب الامن والتعليم والصحة المجانية بكادر نظيف والشوارع والنفسيات كذلك ، كانت الحياة في الجنوب بسيطة وبعيدة عن التعقيد مع وجود بعض المنغصات الخفيفة فالحياة بشكل عام لا تخلو من الصعوبات ولا يوجد نظام سياسي في العال مكتمل، واليوم هناك عدد كبير الجنوبيين الذين يأسفون على فقدان دولتهم بلغ ذروته في العقد الاخير ، مع العلم أن حضور أليمن الديمقراطي كدولة لم يدم على خارطة العالم سوى 23 عامًا ، ولكن كما يتضح تركت علامة ايجابية عميقة في الوعي الجماعي الجنوبي .
طبقًا للسياسيين الجنوبيين ، فقد كانوا يأملون بعد عام 1990 أن يتمكنوا من الاندماج الكامل في الوحدة مع الشمال وتحسين الاوضاع الاقتصادية و الرفاهية والانفتاح على العالم خلال السنتين الاولى "عفوا " ليس في السنتين الاولى بل في الخمس السنوات أو في العشر السنوات أو في الخمسة عشر عامًا وهكذا ، ومع ذلك فقد مر تسعة وعشرون عامًا ولازال الفرق بين شطري البلد قائما وما زال الجنوبيون يشعرون بأنهم يعيشون في بلدين مختلفين ، فالوحدة من وجهة نظرهم فشلت ، ولهذا يتذكرون بحسرة الامن ومحاربة الفساد وتوفير الخدمات المجانية كالتعليم والصحة التي تركت اثر كبير في نفوس و اذهان الجنوبيين وتجبر مواطنو أليمن الديمقراطي السابق الى "الحنين إلى الماضي" وغالبًا ما تجد الاباء وكبار السن يوضحون لأطفال اليوم كيف كانت الحياة قبل الوحدة اليمنية وكيف اصبحت بعدها ، يريدوهم ان يعرفوا كيف عاش آباؤهم ونوعية الذكريات الطيبة التي يحملونها عن ذلك الماضي الجنوبي الجميل البسيط .
في الجنوب قبل الوحدة الاقتصاد لم يكن مرنا وكانت حياة الناس منظمة بشكل صارم حيث كان شكل العالم الخارجي غير معروف للمواطنين بسبب الحظر المفروض على حرية السفر و الرقابة السياسية والامنية الشديدة وهذه الصفات كانت من ضمن العيوب المحسوبة على النظام في ذلك الوقت ، لكننا كنا نعيش في دولة الاستقرار النفسي والثقة في المستقبل ، كانت هناك دولة رغم النواقص دافعت عن مواطنيها وضمنت الحق في العمل والحق في التعليم المجاني وأعطت إحساسا بالأمان للجميع والخدمة الطبية في مستشفيات و عيادات اليمن الديمقراطي لم تكن نخبوية ولكن مع ذلك كان هناك ضمان بأنك ستتم معالجتك بجدية من قبل محترفين ومجانا .
الشعور العام من هذه الذكريات متعب بعض الشيء وعن نفسي رغم قلة الرفاهية في اليمن الديمقراطي في تلك الفترة إلا أن أحببت حياتنا الجنوبية البسيطة والمتواضعة ، التي كانت مخططة منذ ولادتنا "التعليم الممتاز رياض الأطفال ، مدارس ، فرص عمل للخريجين ، رعاية المسنين ، تنظيم المعاشات التقاعدية ، الرحلات الترفيهية والحفلات ، الرياضة " ، لقد كانت حياتنا أكثر ودية رجال ونساء في مرافق العمل والجامعات ، كنا طلبة وطالبات في مدرسة واحدة وفي فصل دراسي واحد تجمعنا المنافسة الدراسية والاخلاق والاحترام المتبادل وتحت ادارة كفؤة من المدراء في كل مدارس وثانويات الجمهورية امثال الاساتذة الكبار زينب علي قاسم ، واسماء ماطر و عبده علي بعيصي وعباس وقاسم المجيدي و غيرهم كثير جدا و تحية وتقدير لكل من لازال حي يرزق والرحمة والمغفرة لكل من جائه الاجل .
أعتقد وغيري كثير كذلك بأننا لا نحمل اي شعور بالندم عن اكثر من عقدين من العمر في كنف اليمن الديمقراطي ، لأنها حدثت وجزء كبير منها كانت جميلة ، لكن لا يوجد أي حنين للنظام السابق الذي اظهر تفوق الدولة على الفرد وربما بسبب ذلك اليوم يشعر المسئولون الجنوبيون المعاصرون بالحرج لتذكرهم بأن أجدادهم حينها خنقوا الديمقراطية والاقتصاد وبعض الحريات ، اما "النوستالجيا" او الحنين الحقيقي لتلك الحقبة يبقى مرتبط بالشباب الذي ذهب بالفعل ، للطلاب والدراسة والجيش والأصدقاء الامن و الانضباط والمحاسبة و الجوانب الايجابية الإنسانية الكثيرة ، حيث عاشت معنا جميع الجنسيات والطوائف والمذاهب و جميعها كانت متساوية وتحظى بالاحترام والحقوق ، كان الناس لطفا وكرماء وبشوشين إلى حد كبير مع بعضهم البعض ومع الغريب .
محل كل شيء سابق متواضع و جميل قبل الوحدة حلت اليوم الفوضى و البطالة واختفت الصحة و التعليم المجاني وانتعشت المحسوبية والواسطة والرشوة وتجارة بيع و شراء الشهادات و الدبلومات وهناك سوق خاص بهما وهو سوق مزدهر مثله مثل سوق السلاح وسوق الادوية المهربة والمزورة وسوق الاراضي المنهوبة والبسط العشوائي وسوق القات والشمة والحبوب وسوق الاغذية المنتهية الصلاحية وسوق السيارات والدراجات المسروقة .
مجتمعنا الحديث القادم بعيد عن الكمال ولا نعرف ما سيحدث غدًا ، لكن في المستقبل هناك بالتأكيد المزيد من الحريات والفرص ، والثقة والايمان في غدا مشرق ليس مجرد مجموعة من الكلمات والشعارات ، وانما أساس الحياة ومفتاح النجاح .