رشيد الخيُّون يكتب:
التسامح مهمة عالميّة في عصر العولمة
يضع تقارب الإنسان مع أخيه الإنسان، على اختلاف الأديان والعقائد، التطرف الذي يدعو إلى الانعزال العقائدي بذريعة الدفاع عن الذات أو الهوية الدينية، بكراهية وإقصاء أكثر، في ركن قصي كفكر أقلوي. فيما يؤسس إلى ثقافة التسامح الكوني.
فالتّسامح لم يعد مهمة وطنية أو مهمة دولة وشعب، إنما مهمة العالم كافة، بمعنى أن يحصل التّعاون والأخذ بالتّجارب في هذا الشأن، فلكلّ دولة وشعب تجربتُه، بما تقرّه ديانته وتقاليده.
وهنا تأتي مهمة الدّولة، فمن المعلوم أن مقالة “الناس على دين ملوكهم” (ابن الطّقطقي ت708 هـ، الفخري في الآداب السلطانيّة)، أو حسب ابن خلدون (ت 808 هـ) “الناس على دين الملك”، صحيحةٌ، فتوجه الدولة في التعليم والثقافة والمعارف بشكل عام، يضع شعبها أمام مسؤولية تكريس التسامح، واشتراكه في هذه المهمة.
إسلاميّا، وردت الآية واضحة “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ” (يونس 99).
ساحات العواصم الأوروبية كانت أمكنة للرعب الديني، بينما تحظى اليوم بالحريات الدّينية، والتسامح الديني، بمعناه الأعمق؛ التعايش المريح على أساس المواطنة ودولة القانون
كذلك وردت آيات واضحة تؤكد حرية الضّمير، وما يخص الاعتقاد الدّيني، وهو جوهر التّسامح واستقلال الضمير “إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” (الحج 17). وتتكرر الآية في سورتي (البقرة 62)، و(المائدة 69).
كانت ساحات العواصم الأوروبية الكبرى أمكنة للرعب الديني، بينما تحظى اليوم بالحريات الدّينية الواسعة، والتسامح الديني منقطع النّظير، ليس بمعنى عفو القوي عن الضعيف، إنما بمعناه الأعمق؛ التعايش المريح على أساس المواطنة ودولة القانون، أي تعايش لا فقط تساكن، ولم يتم ذلك إلا بعد إلغاء فكرة وممارسة الانتماء الديني معيارا للمواطن الصالح، بل قضية شخصية، لا عقوبة على الالتزام بها أو عدم الالتزام، لأن الأمر مرجعه لله.
إن مقولة “حرية الضمير”، تحتاج إلى وطن يتحمل الجميع، على مختلف أديانهم ومذاهبهم، وهو ما أكدت عليه الآيات المذكورات.
إن نجاح أوروبا في تحقيق التّسامح دَعمه النص الديني، مثلما هو متوافر لدينا، من آيات وأحاديث ووصايا، ولا يؤخذ علم “النّاسخ والمنسوخ” بنظر الاعتبار، لكونه جاء لإلغاء أو حذف العشرات من النصوص التي لا تسمح بالعنف الدّيني وتوصي بالتعايش والتسامح، ومن بداية القرن العشرين ظهرت محاولات لنبذ الدكتاتورية الدينية، على أنها أفظع من الدكتاتورية السياسية، بل إحداهما تدعم الأخرى.
التجربة الأوروبية
كانت لفظة “التسامح” (Tolerance) متداولة في القرن السادس عشر الميلادي، بسبب السّعي من أجلها والحاجة إلى تأكيدها، وقد حافظت “على معنى القبول والتحمل السلبي، الذي يطل من مؤلفات كبار الأدباء.
وكان فعل التسامح متداولا منذ زمن طويل دون مصدره في معرض الحديث عن الحرية الدينية، حتى ظهرت رسالة جون لوك (ت 1704م) “التسامح”، ورسالة فولتير (1778م) “التسامح”، فأصبحتا مادة ثقافية ومعرفيّة لتكريس فكرة التسامح، وما ظهرت هاتان الرسالتان، إلا بعد تجربة من التشدد والعنف، بسبب ديني.
من المعلوم أن السعي إلى تحقيق “التسامح” احتاج إلى “إصلاح” ديني وعصر نهضة، في مختلف المجالات، فلولا وجود الأخير ما بُحث في شأن الأول. ويرى المؤلف، أن أكثر الثّوريين على الكنيسة، في القرن السادس عشر، لم يظهروا بالمظهر الثوري للإطاحة بالماضي برمته.
لا يتحقق التَّسامح، على المستوى العالمي، بل الوطني والإقليمي، بلا قبول للتنوع الإنساني، الديني والمذهبي، وكل ما اختلف فيه البشر، من اللون والعرق
لذا أخذ التحديث في ذلك العصر أشكالا متنوعة، ومنها الارتداد إلى التقاليد الموغلة بالقِدم. حتى بدت حركة النهضة في أوروبا إحياء لفنون العصور القديمة، وكأن الإصلاح الديني راض بالعودة إلى معتقدات الكنيسة الأولى، وممارستها لدعم الإصلاح بها “ولسوف يحذو الحذو عينه أنصار التسامح وخصومه على السواء، باتّباعهم طريقة اللاهوتيين المدرسيين (السّكولائيين) التي تقضي بالاستناد إلى المرجعيات وهي؛ الكتاب المقدس بعهدَيه القديم والجديد، وآباء الكنيسة، وبنسبة أدنى، لاهوتيو العصر الوسيط” (لوكلير، تاريخ التسامح في عصر الإصلاح).
نجد أنفسنا قد استغرقنا في الماضي وفي الدين نفسه، متخذين من النصوص الدينية وتراث علماء الدين المنفتحين، على قدر تقاليد عصورهم، أسانيد في ما نريد طرحه من ثقافة، وأظن أن السبب يتعلق بمقابلة ما يطرحه المتشددون، فهم يؤثرون على أغلبية الناس، وخصوصا البسطاء، بالتراث الديني والتقاليد القديمة، من خلال النصوص الدينية أو الأدبية والأخلاقية.
لعل أهم وثيقة، قبل أن تسود المسيحية بأوروبا، وقبل أن تُتخذ ديانةً رسمية للدولة الرومانية والبيزنطية، عقدها الملكان الروماني ليقينيوس والبيزنطي قسطنطين، وكان على الديانة الوثنية، مع أن الأخير اقترب من المسيحية ولم يعلنها بعد كديانة رسمية لإمبراطوريته، فوقعا بينهما ما عُرف بمرسوم ميلانو (313م)، بعد أن صار الكف عن إيذاء الأديان المخالفة ضرورة لشعوب الممالك آنذاك، بعد اضطهاد وتعسف ضدها، ولأهميته، كوثيقة تاريخية تجد حيويتها في عصرنا الحاضر، ننقله نصا بما تُرجم عن اليونانية، ومن بعده نأتي بصحيفة يثرب، التي صدرت عام 622 للميلاد، فالأُولى صدرت من الغرب غير المسلم، وقبل الإسلام بنحو ثلاثة قرون، والأخيرة صدرت من المشرق في العام الأول للهجرة.
مرسوم ميلانو
“لما كُنا نحن الموقَّريْن، قسطنطين وأنا ليقينيوس، قد اجتمعنا في ميلانو لمعالجة القضايا المتعلقة بمصلحة الإمبراطورية وأمنها، فقد رأينا أن ليس بين الموضوعات، التي تُشغلنا، ما هو أجدى لشعبنا من أن نعمد، أولا، إلى تنظيم طريقة تكريم الآلهة. لذا اتفقنا على إعطاء المسيحيين حرية ممارسة الديانة التي يفضلون، أسوة بالآخرين، كي تعطف علينا الآلهة المتربعة في علياء سمائها، وتؤيدنا نحن وجميع الخاضعين لسّلطاننا”.
ويتابع المرسوم، “لقد رأينا من الحكمة والصلاح ألا نرفض لأي مواطن، مسيحيا كان أو متعبدا لآلهة أخرى، حقّ ممارسة الدّيانة التي تناسبه على أفضل وجه؛ حتى إذا انصرفنا كلّنا إلى تكريم الإله الأعظم بملـء حريتنا، رجونا أن نحلم برضاه وفضله المعهودين. لذا وجدنا من المناسب أن نُعلم سيادتكم أن (الرسالة وُجّهت إلى إمارات الدولتين) بحذفنا القيود المتضمنة في القرار السابق بشأن المسيحيين (القرار 312)، والسماح لهم بممارسة دياناتهم ابتداء من هذه اللحظة، من دون التسبب لهم بإزعاج…” (لوكلير، تاريخ التسامح في عصر الإصلاح).
صحيفة يثرب
كُتبت صحيفة يثرب، أو كتاب يثرب، كمعاهدة بين فئات مجتمع المدينة (يثرب)، بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها مباشرة، وجاءت لحلّ ما كان قائما بين الفئات الاجتماعية والدينية، من نزاعات وحروب، في داخل المدينة، أو ما يتعلق بتلك الكيانات مع خارجها.
وتعد من اللوائح القانونية الأولى، ذات الصبغة الدستورية، وهناك من اعتبرها أقدم اللوائح، أي كلائحة يتم التعاهد عليها والاتفاق، ولها مرجعية واحدة، تبتّ في الالتزام بها من عدمه، وتنظيم ما يتعلق بشؤون القتال والأسرى، وبالجانب الاقتصادي بما يتعلق بالإنفاق والتكافل الاجتماعي، ورعاية تطبيق القسط والعدل بين تلك الفئات، وما تقرر فيها من التسامح الديني.
هيّأت الصحيفة المذكورة المجتمع بالمدينة المنورة، منذ مطلع العام الهجري الأول، إلى التضامن والتكافل الاجتماعي، مع الاحتفاظ بالعقائد الدينية وخصوصيتها، والاحتفاظ بحرية المقدسات لكل ديانة.
صحيح أن المدينة كانت حينها، حسب بنود الوثيقة التي فرزناها إلى ثلاثة وخمسين بندا اقتبسناها من سيرة ابن هشام، مقتصرة على المسلمين والمشركين واليهود، بسبب عدم وجود الديانة المسيحية وغيرها فيها وقتذاك، لكن البنود الخاصة بالديانة يمكن القياس عليها، حتى لو تعددت أديان منطقة ما إلى العشرات. أما عن تأكيد شمول المشركين بيثرب، أو المدينة، فقد جاء في البند التاسع عشر من الوثيقة “لا يُجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن”.
التعاضد بين المثقف والسياسي ساهم بنقل أوروبا من الحروب الدينية إلى رحاب المدنية
صحيفة يثرب هيّأت المجتمع بالمدينة المنورة
سميت الوثيقة بعدة أسماء، فقد وردت في السيرة النّبوية لابن إسحق (ت151 هـ) وابن هشام (ت 218 هـ) بـ”الكتاب” و”الصّحيفة”، وفي “الأموال” لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ) بـ”الكتاب”، ومن سماها “الموادعة”، “الوثيقة”، “الميثاق”، “المعاهدة”، و”الدستور”. والتسمية الأخيرة جاءت لمفكرين معاصرين ممّن اعتبر المدينة دولة إسلامية، وهذه الصحيفة دستورها، بل اعتبرت في “مؤتمر دائرة المعارف بحيدر أباد الدكن 1938”، بأنها أقدم دستور مسجل في العالم.
جاء ذكر نصها في العشرات من المصادر الإسلامية، من كتب السيرة والتاريخ والأموال والحديث النبوي، وقد جمع تلك المصادر محمد حميد الله (ت 1981) في كتابه التّوثيقي”مجموعة الوثائق السياسية للعهد النّبوي والخلافة الراشدة”، وعنونها بعبارة “دستور الدولة البلدية بالمدينة”.
شملت الصحيفة المسلمين والمؤمنين، حسب مستهلّها “هذا كتاب من محمد (ص) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب…”. ويغلب على الظن أن هناك فارقا بين التسميتين، حسب الآية الكريمة “قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ” (الحجرات 14)، أي؛ أن المؤمن من دعّم إسلامه، آنذاك، بالجهاد وطاعة الله ورسوله، من دون تردد.
أمريكا والاعتراف الديني
حرص الرئيس الأميركي الثالث توماس جيفرسون (1801-1809) على اقتناء نسخة من القرآن الكريم، لأنه سياسي طموح ومثقف يرنو إلى تأسيس دولة مدنية تضم الجميع. لهذا تحرك مبكرا في التخفيف من الرِق، ومعالجة قضية الهنود الحمر، ولأنه كان صاحب اطلاع على ثقافات الشعوب، وذا اتصال مع الحكام المسلمين بشمال أفريقيا، طرأ على باله أن المسلمين سيكونون جزءا من تركيبة المجتمع الأميركي، إلى جانب بقية الأديان.
كانت هذه الأفكار حاضرة في ذهن أحد بناة الولايات المتحدة الأميركية، وكاتب لائحة استقلالها (1776)، هذا ما تحدثت عنه المؤلفة الأميركية دينيس أ. سلبيرغ، الأستاذة المشاركة في تاريخ ودراسات الشرق الأوسط في جامعة تكساس، في كتابها الثري “جيفرسون والقرآن.. الإسلام والآباء المؤسِسون”، الصادر بالإنكليزية عن دار “نوبف” بنيويورك (2013)، ثم أصدرت دار “جداول” نسخته العربية (2015)، تولى ترجمته فؤاد عبدالمطلب.
كان اهتمام جيفرسون المبكر بالإسلام والمسلمين دفع البعض إلى اعتباره مسلما، ويعني هذا الاعتبار في القرن الثامن عشر، وفي الوسط الإنجيلي والكاثوليكي، سلبيا، على شخصية سياسية تطمح لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية.
ربما لم يتوصل جيفرسون إلى فكرة بناء الدولة والأمة المختلطة، إلا بعد تأثره بالفيلسوف البريطاني جون لوك، فقد أخذ يقتبس من مؤلفاته فكرة المدنية في الحكم، خصوصا رسالته في “التسامح”.
هنا يأتي دور التعاضد بين المثقف والسياسي أو الحاكم الراشد، إن صحت العبارة. وهذه الثنائية ساهمت بنقل أوروبا من الحروب الدينية الطويلة، وظروف التعصب الديني والمذهبي القاسية إلى رحاب المدنية في الحكم وإدارة المجتمع.
صحيفة يثرب هيّأت المجتمع بالمدينة المنورة
التعاضد بين المثقف والسياسي ساهم بنقل أوروبا من الحروب الدينية إلى رحاب المدنية
فترى جيفرسون يقتبس عبارة جون لوك المهمة في طرح التسامح الديني، “يجب عدم استثناء الوثني والمحمدي (المسلم) واليهودي من الحقوق المدنية للكومنولث بسبب دينه” (جيفرسون والقرآن).
كان وراء طرح قضية إشراك المسلمين في الأمة الجديدة، لوجود مسلمين آنذاك بين المهاجرين، وإن كانوا بأعداد محدودة، ثم طرح المشكلات مع طرابلس الغرب عن حرية التجارة والتعامل مع السّفن الأميركية المارة في البحر الأبيض المتوسط. كذلك كان الدافع هو محاولة تجنب العنف بين المذاهب المسيحية بأوروبا آنذاك، ونقلها إلى التجربة الأميركية، فعلى حد قول المؤلفة، “أن يكون المسلمون القضية القياسية لتعيين الحدود النظرية لتسامحهم مع جميع المؤمنين”.
ولا يتحقق التسامح، على المستوى العالمي، بل الوطني والإقليمي، بلا قبول للتنوع الإنساني، الديني والمذهبي، وكل ما اختلف فيه البشر، من اللون والعرق.
التنوع الإنساني قوة
لا يغدو هذا التنوع سمة من سمات الدول والمجتمعات المختلطة، بلا إدارة مخلصة تتبناه بموجبها الدولة كأحد ثوابتها، ثقافة وممارسة. لأهمية التنوع، وأهمية مقولة “الناس على دين ملوكهم”، مثلما تقدم ذكر ذلك، يُذكر أن رجال دين اقترحوا على السلطان العثماني سليمان القانوني (ت 1566) بفرض الإسلام على إمبراطوريته كافة، فكان جوابه “كما أن هذا التنوع الظاهر في الأعشاب والأزهار لا يضير في شيء، بل يجدد النظر والشم على نحو رائع، كذلك تنوع الديانات في إمبراطوريتي لا يشكّل عبئا عليَّ، بل عونا لي.. شرط أن يعيش رعاياي بسلام ويطيعون أوامري، فالأفضل لي أن أدعهم يعيشون على طريقتهم، ويتّبعون الديانة التي يريدون (…) بدلا من أن أثير الفتن”.
ذكر ذلك رجل القانون الألماني فيليب ميراريوس (ت 1624)، في “تأملات تاريخية”، الذي وثّق فيه جهود أمراء وملوك قدامى في إدارة التنوع (لوكلير، تاريخ التسامح في عصر الإصلاح).
إذن، ظل التنوع قائما بإمبراطوريات إسلامية، فقبل الإسلام، لم تكن المنطقة خالية منه، فلشاعر الحيرة عَدي بن زيد (نحو587م)، ما يشير إلى الاعتراف بالإله الواحد مع وجود التنوع بعبادته:
سَعى الأعداء لا يألون شرّا
عليك وربِّ مكةَ والصَّليبِ
أُعالِنُهُم وأبطنُ كلَّ سرٍّ
كما بين اللّحاء إلى العَسيبِ