كرم نعمة يكتب:
البحث عن إجابة جديدة في سؤال قديم عن الصحافة
يقترح بول تشادويك محرر شؤون القراء في صحيفة الغارديان البريطانية، تعريفا يضيف أهمية على الصحافة في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، ويبدو تشادويك مدفوعا في ذلك برغبة الصحافي الذي يكمن في داخله، فهو أحد الأصوات التي تعمل ضمن الاستراتيجيات التي تجتهد لإنقاذ الصحافة، أو على الأقل إخراجها من السوق المريضة. لأنه يؤمن بأنّ طرح الأسئلة والكشف عن الإجابات، أو الكشف- حتى- عن عدم وجودها، هي مسؤولية الصحافيين الأساسية، وهي المعونة التي ينبغي عليهم تقديمها لمجتمعاتهم.
يرى تشادويك أن الصحافة ما زالت جديرة بالاهتمام في مجتمع حر، لأنها فعلت الكثير من أجل هذا المجتمع وما زالت قادرة على فعل المزيد في عصر وسائل التواصل.
فعندما يطلق السؤال القديم عن “ما هي الصحافة؟” فهو يبحث عن إجابة جديدة، ويختار هذه المرة كلمة الحرية، مزيحا اعتبارات كثيرة مرتبطة بالصحافة نفسها عن كسب المال والتأثير على الجمهور واختراق العقول ومعارضة الحكومات وتقليل فسادها أو “التواطؤ معها عند بعض أنواع الصحافة”!
فوسائل التواصل الاجتماعي لا يمكن مساءلتها من الناحية الأخلاقية، لأنها مشغولة بتعطشها “الأخرق” للقيل والقال، تاركة قيادتها للذكاء الاصطناعي، بينما تبقى الصحافة جديرة بالاهتمام وفق مسؤوليتها المستلة من روح المجتمع نفسه. لذلك تساهم بشكل واضح في صناعة الثقافة وتساعد المجتمع المدني على التماسك، فوسائل الإعلام المحلية بمثابة منتديات عامة توفر المعلومات وتتابع الأنشطة الضرورية لمجتمع مدني صحي. والأهم أن ذلك النشاط المفتوح يعزز بشكل كاف التسامح ويثير انتباه الناس إلى التنوع، ذلك جوهر أساسي في مهمة الصحافة في زمن الحرب المعلنة التي تديرها وسائل التواصل الاجتماعي بين أطراف العالم المتباعدة.
وكما هو الحال على الأغلب مع المعلومات المضللة المنتشرة في الفضاء الرقمي، فإن السكان الضعفاء هم الأكثر عرضة للخطر. وهنا يأتي دور الصحافة كمنقذ موثوق به.
تقول نارايانان من معهد أكسفورد للإنترنت في تصريح لصحيفة فايننشيال تايمز “تمثل الإنترنت ذروة الثورة الصناعية الرابعة. هذه مجتمعات لم تحصد فوائد الثورة الأولى، فليست لديها المعرفة اللازمة للبدء في فهم أن جهاز الكمبيوتر يمكن أن يبتكر هذا”.
في النهاية لا يمكن أن تكون وسائل التواصل أكثر حرصا من الصحافة على المصلحة العامة، عندما يتعلق الأمر بالمحافظة على الديمقراطية ومساءلة السياسيين وتنوير الرأي العام، مثلما هي مؤثرة في محاصرة فساد الحكومات.
استلهم بول تشادويك، وهو محرر أحد أهم أقسام الصحف وفق التقاليد الصحافية البريطانية، فبريد القراء ما زال يحظى بالاهتمام الشديد لأنه قادر على صناعة الأفكار الجديدة وتصويب ما يكتب، استلهم دفاعه عن الصحافة من فكرة جهلنا بالتاريخ التي عرضتها الروائية البريطانية هيلاري مانتل بشكل لا ينسى في روايتها “صالة الذئب” التي نالت عليها جائزتي بوكر وأورنج.
فعند مانتل أن التاريخ هو الطريقة التي ننظم بها جهلنا بالماضي، وعند تشادويك فإن الصحافة في العصر الرقمي هي كيف يمكننا أن نتعامل مع جهلنا بعالم متغير تحكمه تقنية اتصالات فائقة السرعة وكم هائل من المعلومات يفوق قدرتنا على الاستقبال.
تصبح الصحافة عندها نوعا من الأمل من أجل المستقبل، لأنها قادرة على منحنا الاطمئنان الواضح في معرفة ما يجري حولنا بمفردات إنسانية مشتركة، لا تضمنه وسائل التواصل الاجتماعي مها فعلت سواء بخضوعها للقوانين العامة أو بتكيف محتواها مع المعايير الأخلاقية المطلوبة. لأنها بحساسية ومسؤولية أضعف من أن ترقى إلى ما تؤمن به الصحافة.
بول تشادويك مثل أي صحافي آخر يدافع عن المُثل التي يؤمن بها ويرى أن الصحافة يجب أن تقوم بدورها التاريخي من أجل المجتمع، لكن إعادة التعريف لا تكفي في واقع تكنولوجي متغير وسريع، جعل الصحافة تدور على نفسها في محاولة إعادة اكتشافها دورها!
لا يمكن للصحافة أن ترهن مستقبلها بالإعلانات التجارية، مثلما لا يمكن أن تعيد قصتها الورقية مما نشر في مواقع التواصل، الشركات التكنولوجية الكبرى استحوذت على الإعلانات، ومواقع التواصل التقطت الأخبار في لحظتها!
يكفي أن نشير هنا إلى أنه في يونيو الماضي، أفادت هيئة تنظيم البيانات في بريطانيا، بأن صناعة الإعلانات عبر الإنترنت التي تبلغ قيمتها 200 مليار دولار تعمل بشكل غير قانوني، وتسيطر عليها شركة غوغل. وبطبيعة الحال حصة الصحافة من هذا المبلغ الكبير تكاد لا تذكر.
الصحافة بشكل عام بحاجة إلى تغيير عميق في داخلها لإعادة العلاقة الواهنة بينها وبين الجمهور “كم بقي من الأوفياء منهم”، بل إن النظرة المتشائمة محفوفة بالمخاطر عندما يصل التساؤل إلى مرحلة عما إذا يوجد جمهور أصلا للصحافة يمكن التعويل عليه، في زمن جمهورية فيسبوك المليارية؟
تبدو لي فكرة تشبيه الصحافيين بقادة عربات الخيول في زمن اكتشاف السيارات، ليست أكثر من اعتراف بالهزيمة، فالحاجة ماسة إلى صناعة سيارة بمواصفات مختلفة بالنسبة لأولئك الحوذيين وليس ترك العربة والحصان أو بيعهما لشراء سيارة بثمنهما إن كان يكفي. ذلك ما يمكن أن يكون عليه المعادل التاريخي للصحافي والحوذي، كما اختاره زميل لبناني فقد عمله بعد أن أغلقت الصحيفة التي كان يعمل فيها.
لا يكفي أن يتعلم الصحافيون التقنيات وحدها، بل عليهم ابتكار ما هو مجد في المحتوى وبطريقة تقنية في صناعة قصتهم، ستستعيد الصحافة من شأنها بين الجمهور عندما تعود لصناعة قصتها المتفردة، وهذا ممكن جدا إذا وجدت من يؤمن بجوهرها الحقيقي ويدافع عنها.